للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الحياة. فما كتب الجهاد على الزعماء دون الدهماء، ولا كتب على القواد دون الأجناد، ولا على الرعاة دون الرعية، ولا على الكبير دون الصغير، إنما جهاد الحياة فرض يستقبل الناس حين يستقبلون الحياة، ولا ينصرف عنهم حتى تنصرف عنهم الحياة

لما تؤذن الدنيا به من صروفها ... يكون بكاء الطفل ساعة يولد

إذا أبصر الدنيا استهل كأنه ... بما سوف يلقى من أذاها مهدد

وإلا فما يبكيه منها وإنها ... لأفسح مما كان فيه وأرغد

وهذا الطفل إذا اشتد جاهد في الحياة جهاداً يتسق مع شأنه في الحياة، ولا يزال ينمو ويخطو في حياته، ونصيبه من الجهاد ينمو ويخطو ألزم له من ظله حتى مماته. وجهاده في مراحل حياته يعتريه من الأعراض والصور وما يعتري كل كائن حي في أطوار حياته من نمو وقوة ونشاط وضعف وعجز وفتور وغير ذلك

فالرضيع لا يجاهد إلا فيما يشعر به من ألم أو حاجة. ولذا يكون جهاده (ذاتياً) محدوداً، يستعين فيه بأعضاء بدنه؛ فإن ألح عليه الألم والحاجة استعان فيه بالبكاء حتى يغاث فيظفر، أو يعي فينام فيقهر. ثم ينمو الطفل فيدرك معنى (الملكية) فيجاهد في الاحتفاظ بما ملك ويسعى لملكية ملا يملك، فيزداد جهاده، ويشتد ويحول إلى غير ما كان عليه جهاد الرضيع

والشاب في شبابه يدرك معنى الحياة فيستشرف إلى نعيمها وملذاتها، وتتعدد حاجاته ومطامعه، ويسعى حثيثاً للاستمتاع بالنعيم واللذة، ويعد نفسه لما تفرضه عليه سنن الحياة، فيجاهد في ذلك جهادا عنيفاً، ويلقى في جهاده نصباً

والكهل يسعى وراء الرزق: يدبره لنفسه، ويدر أخلافه على أهله وأبنائه، ويدخر منه لعقبه وأخلافه. وإنه لواجد في سبيل الرزق عقبات وعوائق. وإنه لجاهد مجاهد في تذليلها، والتغلب عليها، وإن جهاده لشديد، وإنه لأكثر بلاء وعناءً

والشيخ الفاني الذي نفض يديه من الدنيا، تنتابه الأمراض والعلل، ويلح عليه الفناء، وتخذله قواه؛ فيجاهد في الحياة الباقية له جهادا عنيفاً جباراً، ولكنه خافت صامت؛ يكسر من حدته صبر الشيوخ وأناتهم، وضعف آمالهم واستسلامهم

أولئك جميعاً تفرض عليهم الحياة فروضاً، وتلوح لهم بمطامع وهم يبسطون إليها آمالاً: ثم

<<  <  ج:
ص:  >  >>