النفس العالية إلى أن تحفظ للدنيا حقائق الضمير والإنسانية والإيمان والفضيلة، وقامت حارسة على ما ضيع الناس، وسخرت في ذلك تسخيرا لا تملك معه أن تأبى منه ولا يستوي لها أن تغمض فيه، ونقلت الإنسانية كلها ووضعت على مجاز طريقها أين توجهت فتأكد الأمر فيها، ووصل بها، وعلمت أنها من خالصة الله، وأن رسالتها للعالم هي تقرير الحب للمتعادين، وبسط الرحمة للمتنازعين؛ وأن تجمع الكل على الجمال وهو لا يختلف في لذته؛ وتصل بينهم بالحقيقة وهي لا تتفرق في موعظتها؛ وتشعرهم الحكمة وهي لا تتنازع في مناحيها. فالأدب من هذه الناحية يشبه الدين، كلاهما يعين الإنسانية على الاستمرار في عملها، وكلاهما قريب من قريب؛ غير أن الدين يعرض للحالات النفسية ليأمر وينهي، والأدب يعرض لها ليجمع ويقابل، والدين يوجه الإنسان إلى ربه، والأدب يوجهه إلى نفسه، وذلك وحي الله إلى الملك إلى نبي مختار، وهذا وحي الله إلى البصيرةإلى إنسان مختار
فان لم يكن للأديب مثل أعلى يجهد في تحقيقه ويعمل في سبيله، فهو أديب حالة من الحالات، لا أديب عصر ولا أديب جيل؛ وبذلك وحده كان أهل المثل الأعلى في كل عصر هم الأرقام الإنسانية التي يلقيها العصر في آخر أيامه ليحسب ربحه وخسارته. .
ولا يخدعنك عن هذا أن ترى بعض العبقريين لا يؤتي في أدبه أو أكثره إلا إلى الرذائل، يتغلل فيهان ويتملأ بها، ويكون منها على ما ليس عليه أحد إلا السفلة والحشوة من طغام الناس ورعاعهم؛ فان هذا وأضرابه مسخرون لخدمة الفضيلة وتحقيقها من جهة ما فيها من النهي، ليكونوا مثلا وسلفا وعبرة؛ وكثيرا ما تكون الموعظة برذائلهم أقوى وأشد تأثيرا مما هي في الفضائل؛ بل هم عندي كبعض الأحوال النفسية الدقيقة التي يأمر فيها النهي أقوى مما يأمر الأمر، على نحو ما يكون من قراءتك موعظة الفضيلة الأدبية التي تأمرك أن تكون عفيفا طاهرا؛ ثم ما يكون من رؤيتك الفاجر المبتلى المشوه المتحطم الذي ينهاك بصورته أن تكون مثله. ولهذه الحقيقة القوية في أثره - حقيقة الأمر بالنهي - يعمد النوابغ في بعض أدبهم إلى صرف الطبيعة النفسية عن وجهها، بعكس نتيجة الموقف الذي يصورونه أو الإحالة في الحادثة التي يصفونها؛ فينتهي الراهب التقي في القصة ملحدا فاجرا، وترتد المرأة البغي قديسة، ويرجع الابن البر قاتلا مجنونا جنون الدم؛ إلى الكثير