عمدت إلى مثل ذلك في لغة الفرس أو إحدى لغات البلقان الكثيرة، لما أجدى ذلك شيئاً، ولما جاوز بها هذا التسهيل صبغتها المحلية
وشيء آخر يغلط فيه أصحابنا الذين افتتنوا بالتسهيل، ذلك أن السهولة مرجعها إلى العقل، لا إلى الألفاظ، فلو أنك قصرت اللغة على ثمانين لفظاً، لا ثمانمائة، لما أختلف الحال، ولبقيت المسألة حيث كانت، لأن المعول في التعبير على الكاتب؛ وليس على عدد الألفاظ، وما من كاتب أو شاعر في الدنيا يستعمل كل ما في لغته من كلمات، والسهولة مردها إلى أمور لا علاقة لها باللفظ في ذاته ومن حيث هو، منها أن يكون المعنى الذي يلتمس المرء العبارة عنه، واضحاً في الذهن، ومنها أن يحسن الكاتب بعد ذلك انتقاء الألفاظ التي يؤدي بها المعاني، وكثيراً ما يحدث أن يكون المعنى غائماً، أو غامضاً، أو غير واضح على العموم، في ذهن المرء، فيحاول العبارة عنه قبل أن يدركه هو نفسه أو يحيط به، فيجئ الكلام مضطرباً غير مفهوم، لأنه لا سبيل إلى البيان إلا بعد أن يعرف المرء ماذا يريد أن يقول، وقد يكون المرء عارفاً بما في نفسه؛ مدركاً للمعاني الدائرة فيها، ولكنه لا يعرف كيف يعبر عنها ويبرزها في صورة واضحة، فيسئ الأداء؛ وإن كان قد أحسن التفكير، ويقصر في العبارة؛ وإن لم يقصر في فهم ما يرد على خاطره ويتمثل له من الخوالج. وفي وسعي أن أكتب لك سطوراً ليس فيها كلمة واحدة غير مألوفة، أو لا يعرفها العامة والأميون ومع ذلك لا يستطيع أن يفهمها أحد، وفي مقدوري كذلك أن أعبر عن أدق الاحساسات وأعمق المعاني وأعوصها تعبيراً يحمل القارئ على الظن بأن هذه كلها من البدائه، لأن العبرة كما قلت ليست بالألفاظ ولا بكونها غريبة أو مألوفة، وحوشيّة أو مأنوسة، بل بالكاتب نفسه، أي بوضوح المعنى الذي في رأسه أو غموضه، وبقدرته على أدائه أو عجزه عن ذلك. وقد يتفق لك أن تحادث رجلاً عامياً لا يقرأ ولا يكتب، فتسمع منه كلاماً كالتخليط أو الهذيان لا تستطيع أن تتبين منه مراده، فهذا العامي الأمي لم يرجع إلى الغريب من ألفاظ اللغة ولم يستعمل المهجور والدارس منها، وإنما استعمل ألفاظاً يعرفها الأطفال والباعة والجهلة والمتعلمون، ومع ذلك أعياك أن تفهم كلامه. فلو أن الألفاظ هي التي يرجع إليها أمر الغموض أو البيان، والصعوبة أو السهولة، لوجب أن تفهم عنه، ولما كنت معذوراً إذا لم تفهم