وقديماً حارب المسلمون، وفتحوا العالم، ودوّخوا الأمم، فأثبتوا في كل أرض هدى دينهم وقوة أخلاقهم الثابتة، وكان من وراء أنفسهم في الحرب ما هو ورائها في السَّلم، وذلك بثبات باطنهم الذي لا يتحول، ولا تستخفه الحياةُ بنزقها، ولا تتسفّهُه المدنيات فتحمله على الطيش.
ولو كانوا هم أهل هذه الحرب الأخيرة بكل ما قذفت به الدنيا، لبقيت لهم العقليةُ المؤمنةُ القوية، لأن كل مسلم فإنما هو وعقليتهُ في سلطان باطنه الثابت القارَّ على حدود بينةٍ محصلة مقسومة تحوطُها وتمسكها أعمال الأيمان التي أحكمها الإسلام أشد إحكام بفرْضها على النفوس منوعة مكررة كالصلاة والصوم والزكاة ليمنع بها تغيراً ويحدث بها تغيراً آخر، ويجعلها كالحارسة للإرادة ما تزال تمرُّ بها وتتعهدها بين الساعة والساعة.
إنما الظاهرُ والباطنُ كالموج والساحل، فإذا جنَّ الموج فلن يضيره ما بقى الساحلُ رَكيناً هادئاً مشدوداً بإعضاده في طبقات الأرض. أما إذا ماج الساحل. . . فذلك أسلوب آخر غير أسلوب البحار والأعاصير، ولا جرمَ ألا يكون إلا خسْفاً بالأرض والماء وما يتصل بهما.
في الكون أصلٌ لا يتغير ولا يتبدل، هو قانون ضبط القوة وتصريفها وتوجيهها على مقتضى الحكمة. ويقابلهُ في الإنسان قانون مثله لا بد منه لضبط معاني الإنسان وتصريفها وتوجيهها على مقتضى الكمال. وكل فروض الدين الإسلاميّ وواجباته وآدابه، إن هي إلا حركةُ هذا القانون في عمله، فما تلك إلا طرقُ ثابتة لخلق الحسّ الأدبيّ. وتثبيته بالتكرار، وإدخاله في ناموسٍ طبيعيّ بإجرائه في الأنفس مجرى العادة، وجعله بكل ذلك قوة في باطنها، فتسمى الواجبات والآداب فروضاً دينية، وما هي في الواقع إلا عناصرُ تكوين النفس العالية، وتكون أوامر وهي حقائق.
من ذلك أرانا نحن الشرقيين نمتاز على الأوربيين بأننا أقربُ منهم إلى قوانين الكون، ففي أنفسنا ضوابطُ قوية متينة إذا نحن أقررنا مدنيتهم فيها - وهي بطبيعتها لا تقبل إلا محاسنَ هذه المدنية - سبقناهم وتركنا غبارَ أقدامنا في وجوههم، وكنا الطبقة المصفاةَ التي ينشدونها في إنسانيتهم الراهنة ولا يجدونها، ونمتاز عنهم من جهة أخرى بأننا لم ننشئ هذه المدينة ولم تنشئنا، فليس حقاً علينا أن نأخذ سيئاتها في حسناتها، وحماقتها في حكمتها، وتزويرها في حقيقتها، وأن نسيغ منها الحلوة والمرة، والناضجة والفجةُ، وإنما نحن نحصّلها ونقتبسها