للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بالخلافة، وأنبسط سلطان العرب، وزخرت موارد الفيء، وأكتمل شباب الجيل الذي نشأ في الإسلام واغتذى بثمرة الفتوح واستمتع بجمال الحضارة وأختلط بأنماط شتى من الناس وساهم بيده ولسانه في هذه الفتن، فبلغ الأدب العربي غاية ما قدر له أن يبلغ. فهل يمكن أن يظل الشعر بنجوة عن هذه الحياة الصاخبة، والعصبية الغالبة، والأحزاب المتحاربة، والأهواء المتضاربة، والشعر العربي ربيب الخصومة والجدل، تبعثه الحزبية ويقويه الهراش وتوحيه شيطان الفرقة؟ الواقع أنه كان وقود هذه الفتن ولسان هذه الأحزاب، يصطنعونه كما نصطنع نحن الصحف اليوم، فيناضل عن زعمائه، ويدافع عن آرائهم، ويصطبغ بصبغة العقيدة التي يدعو إليها وينافح عنها. وإذا علمت أن العرب جميعاً ساهموا في هذه الخصومات، وأن أكثرهم يقول الشعر وخصوصاً في هذه الأزمات، وأن الأمويين استمالوا بالمال هوى الشعراء، وأوقدوا بينهم نار التنافس والهجاء وأن الشعر أصبح صناعة متميزة يعيش عليها بعض الناس، أدركت سبب وفرة الشعر وكثرة الشعراء في عصر عبد الملك، إذ بلغ عدد الفحول المائة. وليس من شك في أن الشعر وأن حافظ على طريقته وطبيعته قد تأثر بهذه الحياة الجديدة تأثراً ظاهراً في معانيه وأغراضه؛ ولكن هذه الحياة لم تكن كلها نزاعاً سياسياً وجدالاً دينياً حتى يقف تأثيره عند هذا الحد، وإنما كان لها مظاهر أخرى يحسن أن نشير إليها قبل أن ندل على أثارها في الشعر

كان من الطبيعي تختلف مظاهر هذه الحياة في العواصم العربية لاختلاف الأحوال السياسية والاجتماعية فيها. فالعراق كان منذ القدم منتجع الخواطر العربية لخصبه ونمائه، ووفرة ظله ومائه؛ وقد لاذ العرب قبل الإسلام بأطرافه وأريافه واللسان واليد فيه للفرس، فأنشئوا إمارة المناذرة؛ فلما فتحوه في عهد عمر نزحوا إليه وأنشئوا على حدود البادية البصرة والكوفة. وكان في العراق ميراث وفر من العلم والأدب والدين خلفته الأمم الغابرة، ولم يؤت العراق ما أوتيت مصر من قوة الهضم والتمثيل حتى يحيل سكانه إلى جنسية واحدة وعقلية واحدة، فانطبعت الأهواء فيه على الفرقة، والنفوس على التنافر؛ وأتى إليه العرب بالعصبية اليمينية والنزارية، ووقعت فيه الأحداث الإسلامية الجلى كوقعة الجمل ومصرع الأئمة والقادة، وما نجم عن ذلك من قيام الشيعة والخوارج، واشتداد المعارضة لبني أمية، واستحكام الخلاف بين البصريين والكوفيين في السياسة والدين والعلم، فكانت البصرة

<<  <  ج:
ص:  >  >>