ويلهو العبد النادم بالجهاد، ويشترك في حروب الردة، فيبلو فيها البلاء الجميل، ويقتل مسيلمة الكذاب، ثم يمعن في جهاده ويغزو مع من غزا بلاد الروم، فينزل حمص ويستقر بها فيمن نزلها من المسلمين الفاتحين، واتخذوها لهم مقاماً ومستقراً؛ ولكن الندم على هذا الجهاد المتصل لا يزال قوياً واضحاً يفعل أفاعيله في نفس وحشي المسلم، يقلق عليه مضجعه، ويشغله عن كل شيء، ويعذبه عذاباً أليماً
ويمضي على عادته أديب العربية الكبير الدكتور طه حسين في تحليل النفس النادمة، ووصف ما تعاني من الآلام، فإذا وحشي (يستعين على الندم بالخمر، وإذا هو يشرب ويسرف في الشرب، وإذا هو يضرب في الشراب فلا يمنعه الحد من معاودة الشراب، وإذا هو المعروف في أهل حمص بما قدم من خير وشر، وإذا هو معروف في أهل حمص بسكره إذا سكر، وبصحوه إذا صحا، وإذا هو يسكر حتى يصبح مخوفاً على من يدنو منه، ويصحو حتى يصبح عاقلاً حلو الحديث. والندم يلح عليه حتى يبغضه إلى نفسه تبغيضاً، ويصرفه عن الصحو صرفاً، وكلما مضت عليه الأيام ازداد إمعاناً في الشراب، والسن تتقدم به، وجسمه يضعف شيئاً فشيئاً، وعقله يذهب قليلاً قليلاً، والندم ماثل مع ذلك في نفسه، ملم بداره، يأخذه من كل وجه، وهو لا يجد سبيلاً إلى الفرار منه إلا إلى الشراب، وهو يضرب في الشراب، وقد ضعف وفني، فلا يحتمل الضرب فيموت
وقفت خاشعاً بالأمس على قبر وحشي المجاهد السكير، وهو قبر متواضع متهدم لا يزال قائماً في شرق حمص يزوره الناس كل يوم، أسترجع الجهاد العظيم الذي أبلاه صاحبه، وأتمثل مصرع حمزة (خير الناس) ومسيلمة (شر الناس) على يده، وأسأله هل شرب فأسرف في الشرب؟ وضرب على ذلك فلم يمتنع عن السكر؟ وهل كان حقاً لا يجد سبيلاً إلى الفرار من الندم إلا إلى الشراب، وهل ختم حياته الصالحة بهذا الشر المنكر؟ وما عهدتني قط في حياتي أقف على الأرماس البالية المتداعية، أخشع حيالها وأسكن إلى صمتها وأستنطقها تاريخ أصحابها كما يسجله الدهر، وتمليه الحقيقة، ويقتضيه المنطق، وخرس القبر الأبكم الأصم فلم يجب السائل ولم يتحدث إلى الواقف، ولكن معناً واضحاً أشرق على قلبي وتمدد في نفسي، يقول أن وحشي المجاهد قد ظلم ظلماً كبيراً، ونسب إليه ما هو منه براء، ولم يكن كما وصف مدمناً يفزع الخمر ليقتل ندمه الماثل وينسى ألمه