الأعلى، فكان أكمل ما في حياة (الأمين) هذه الصفات النوادر: خلق عظيم شهد به الله، ورجولة كاملة خضع لها الناس، ودين يجمع إلى سعادة الدنيا سعادة الآخرة، ورسالات الرسل إنما تعالج بظهورها الفساد الذي استشرى في العالم، والداء الذي استفحل في الناس.
فإذا كانت معجزة الرسول في القرآن، فان مجده في الخلق، وفوزه بالرجولة. والشعوب المختلفة التي صهرتها شخصية العرب، وطبعتها ثقافة العرب، لم تصل إلى الإخاء والوحدة إلا على منهاجه وهديه.!
ظهر رسول الله والعرب أشتات من غير جامع، وهمل من غير رابط، وأحياء من غير غرض، فاضت في نفوسهم الحياة، وزخرت في صدورهم القوّة، وصرفوا هذا النشاط العجيب إلى نزاع لا ينقطع، وصراع لا يفتر. فحمل إليهم وحده رسالة الله لا يسنده سلطان، ولا يؤيده جيش، ولا يمهّد له مال، فنفروا منها نفور الوحش المروّع! ثم رأوا فيها سيادةً لأسرة، وخضوعا لقانون، وخروجا على عرف، فقابلوها بالعناد وعارضوها بالحجاج ودافعوها بالكيد. آذوا الرسول في أهله وفي صحبه وفي نفسه، فما وهن عزمه ولا لانت قناته. وإنما قابل الأذى بالصبر، والسفه بالحلم، والفضاضة بالرقة، وهذا هو الخلق؛ ثم قارع الجدال بالتحدي، والمكابرة بالسيف، وهذه هي الرجولة: وبذلك الخلق وهذه الرجولة انتصر محمد وحده على العرب! وبذلك الخلق وهذه الرجولة انتصر العرب بعده على العالم!
فلينظر اليوم شعب محمد وأتباع محمد ماذا في نفوسهم من دينه. وفي أخلاقهم من خلقه، وفي أيديهم من تراثه؟؟ فإن وجدوا أن دينهم أصبح رسما محيلا في نفوس الخاصة، وأثرا مشوها ضئيلا في نفوس العامة، وأن أخلاقهم فقدوها يوم فقدوا الحرية، وأضاعوها يوم أضاعوا الملك، وأنّ تراثهم أصبح نهبا مقسّما بين شذاذ الشعوب وذؤبان الأمم، فليفيقوا من النوم، وليخففوا عن القدر اللوم، فإن الله لا يظلم الناس مثقال ذرّة! ومن عاند طبيعة الحياة فقتل في نفسه الطموح، وفي فكره التجدد، وفي عمله الابتكار، ورضى أن يكون في الدنيا كالأثر في المتحف، إنما يدل على ملك باد وشعب انقرض، كان يسيرا عليه أن يدع دينه للمبشرين، ووطنه للمستعمرين، ثم يقعد مقعد الخوالف يتحسّر على المجد المفقود، ويتعلل بالأماني الكواذب!!