وتأمل. ولكن هذه الغرائز هي جزء من قوة لابد لها أن تبدو مظاهرها وآثارها. فإذا كتب على هذه القوة أن يضغط عليها حينا حتى لا تخرج عن نفسها بأي دافع ما، فهي ولابد مستحيلة إلى قوة خفية تعمل عملها في الباطن. وبمثل هذا التبدل وعلى مثل هذا التحول ولد (الضمير الفاسد). فهو وليد هذا الضغط الباطني الذي تصير عليه الغريزة الطبيعية في الإنسان. وهو كالوحش السجين الذي عضته الوحشة ونازعه حنينه إلى العرين والحرية والصحراء، ينهش جسمه بين قضبان القفص. كذلك الإنسان الابتدائي الأهلي السجين يتألم بنفسه، وغريزة الحياة الكامنة فيه المقيدة بمظاهرها الخارجية أمست تبدو بحالة هيجان باطني
وفكرة الدين المكتوب لله على الإنسان هي فكرة قديمة مترددة في الشرائع القديمة. ففي العصور الأولى كانت كل قبيلة تؤمن بأنها مدينة بخيراتها الحاضرة للذريات السابقة. وأن الأجداد الذين قضوا يصيرون بعد الموت أروحاً قوية تتابع تأثيرها في الأحياء وتواصل إحسانها إليهم. ولكن كل إحسان لابد أن يبذل ثمنه. وهكذا تولد في عقول الناس أنهم مدينون بشيء لآبائهم وأجدادهم. وهم مضطرون إلى تقديم الضحايا لهم جزاء وفاقاً على دفعهم للأذى والضر عنهم. ومن هنا نشأت عبادة الأجداد في فجر كل مدينة، ثم تطورت هذه العبادة قليلاً قليلاً. فالاحترام الذي كان يكنه الإنسان لأجداده جميعاً ما فتئ ينقبض حتى أرتكز في الجد الأصلي للسلالة، ثم نزل هذا الجد بدوره منزلة الإله. وكلما كان الإله قوياً مخيفاً كان شعبه الذي يجله ويعبده أكثر فلاحاً وتقدماً، وفي الظروف التي تنمو فيها عظمة الإله ينمو أيضاً الشعور بذلك الدين المفروض في سبيل احترامه وتزداد خشية الإنسان من قصوره في العمل لربه. وبواسطة هذا المنطق ألفينا أن عاطفة خضوع الإنسان لله بلغت الدرجة القصوى يوم ظفر إله المسيحية بالأوثان. ودانت له الأرباب وعسكر في مناطق بارزة من أوروبا. فآمن الإنسان إذ ذاك بأن الدين قد تضخم. حتى أصبح أجل من أن يوفى. وجد نفسه أنه مدين عاجز لا يملك شيئاً والدائن هو الله. فهو والحالة هذه هدف للقصاص الفظيع. والإنسان في شدته هذه تحرى عن وسائل كثيرة ليطرح عن ظهره هذا الدين الثقيل. فلام الإنسان الأول الذي استحق لعنة الإله. فابتدع (الخطيئة الأصلية) وجرم الطبيعة، وأنكر الغرائز الكامنة فيه، ونظر إليها كجراثيم شر وشقاء، ولعن الوجود نفسه.