للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العتاهية لصعب عليها في الشعر مقام المدح، ولكن طبع أبي العتاهية في الشعر سهل عليه كل شيء، وجعله يأتي في ذلك من المدح بما أرضى ممدوحيه غاية الرضى، وكان على ما ذكرنا في ترجمته يقصر التشبيب أمام المدح ولا يطوله حتى يكون كأنه هو مقصوده من شعره، كما كان يفعل ذلك غيره

وكان ابن الإعرابي يتعصب لأبي العتاهية فتنقصه رجل أمامه ورمى شعره بالضعف، فقال له: الضعيف والله عقلك لا شعر أبي العتاهية، ألأبي العتاهية تقول إنه ضعيف الشعر؟ فوالله ما رأيت شاعرا قط أطبع ولا أقدر على بيت منه، وما أحسب مذهبه إلا ضربا من السحر؛ ثم أنشده قصيدته في الزهد:

قَطَّعْتُ منك حبائل الآمال ... وحَطَطْتُ عن ظهر المطيَّ رحالي

ثم قال للرجل هل تعرف أحدا يحسن أن يقول مثل هذا الشعر؟ فقال له الرجل: يا أبا عبد الله جعلني الله فداءك، إني لم أردد عليك ما قلت، ولكن الزهد مذهب أبي العتاهية، وشعره في المديح ليس كشعره في الزهد، فقال: أفليس الذي يقول في المديح:

وهرونُ ماء المُزْنِ يُشفي به الصَّدى ... إذا ما الصدِى بالريق غُصَّت حَناجرُه

وأوْسط بيتٍ في قريش لَبَيتُه ... وأول عز في قريش وآخره

وَزحْفٌ له تحكى البُرُوقَ سيوفُهُ ... وتحكي الرعودَ القاصفات حوافره

إذا حَمِيَتْ شمسُ النهار تضاحكت ... إلى الشمس فيه بِيضُهُ ومَغافره

إذا نكِب الإسلام يوماً بنكبة ... فهرون من بين البرية ثائره

ومن ذا يفوت الموتَ والموتُ مُدْركٌ ... كذا لم يَفُتْ هرونَ ضِدٌّ ينافره

قال: فتخلص الرجل من شر ابن الإعرابي بأن قال له: القول ما قلت، وما كنت سمعت له مثل هذين الشعرين، وكتبهما عنه:

وأما رثاؤه فكان يذهب فيه مذهبه في الزهد والحكمة، لقرب مقامه من مقامهما، ومن ذلك رثاؤه في علي بن ثابت، وكان صديقا له، وبينهما مجاوبات كثيرة في الزهد والحكمة، فحضره أبو العتاهية وهو يجود بنفسه، فلم يزل ملتزمه حتى فاض، فلما شُدَّ لحياه بكى طويلا، ثم أنشد يقول:

يا شريكي في الخير قَرَّبكَ الل ... هُ فنعم الشريك في الخير كُنتا

<<  <  ج:
ص:  >  >>