للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ولا يرون بذلك بأساً فانهم يَشُدُّون به الرأي ويضاعفون منه اليقين، ويزيدون ضوءاً في نور المعنى، وما داموا قد أثبتوا الأصل واستيقنوه فلا حَرَجَ أن يؤيد القولُ بعضُه بعضاً باجتهاد في عبارة، واستنباط من أخرى، وزيادة في الثالثة - مما هو بسبيل منها، على نحو ما نرى من فن الرواية القصصية؛ إذ تتعدد الأساليب والعبارات مختلفة متنوعة، وليس تحتها إلا حقيقة واحدة لا تختلف. والقَصصُ الديني في هذه اللغة العربية فنّ كامل قائم بنفسه لا يُبدع العقل والخيال والعاطفة أقوى منه ولا أعجب ولا أغرب ,

هذا في متن القصة؛ أما في واقعتها فقد اختلفوا اختلافاً آخر؛ هل كان الإسراء والمعراج يقظةً أو مناماً، وبالروح وحدها أو بالروح والجسم معاً؟ وإنما ذكرنا هذا الخلاف لأنه الدليل القاطع على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر بشيء من ذلك فلم يعين لهم وجهاً من هذه الأوجه. والحكمة في ذلك أن عقولهم لم تكن تحتمل الإدراك العلمي الذي أساسه الكهرباء والأثير. .

والخلاصة التي تتأدَّى من القصة: أنه صلى الله عليه وسلم كان مضطجعاً فأتاه جبريل فأخرجه من المسجد فأركبه البُراق فأتى بيت المقدس ثم دخل المسجد فصلى فيه، ثم عرج به إلى السموات فاستفتحها جبريل واحدة واحدة، فرأى فيها من آيات ربه، واجتمع بالأنبياء صلوات الله عليهم، وصعد في سماء بعد سماء إلى سِدْرة المنتَهى، فغَشيَها من أمر الله ما غشيها، فرأى صلى الله عليه وسلم مظهر الجمال الأزلي، ثم زُجَّ به في النور فأوحى الله إليه ما أوحى ,

أما وَشى القصة وطرازُها فبابٌ عجيب من الرموز الفلسفية الإنسانية التي يُرمز بها إلى تجسيد الأعمال في هذه الحياة، تكون تعباً وتقع فائدة، أو تُلتمس منفعة وشهوة وتقع مضرَّةً وحماقة، ثم تفنى من هذه وتلك الصُّور الزمنيةُ التي توّهمها أصحابها، وتخلد الصور الأبدية التي جاءت بها حقائقها.

ومن هذه الرموز البديعة قوله: فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فأخذت اللبن، فقال جبريل أخذت الفِطرة. وإنه مرَّ على قوم يزرعون ويحصدون في كل يوم كلما حصدوا عاد كما كان؛ فسأل ما هذا؟ قال جبريل: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعَفُ لهم الحسنة سبعمائة ضِعف. ثم أتى على قوم تُرْضَخُ رءوسُهم بالصخر، كلما رُضِخَت

<<  <  ج:
ص:  >  >>