يسعى؛ ثم سوبرمان نيشته عارٍ عن العاطفة جافي الطبع، شديد الوطأة، لأن روح أفكار نيشته أرستقراطية، فرأى أن حقيقة الكائنات القصوى (إرادة القوة)؛ وقرر أنها هي الدافع الغريزي الأقوى في الإنسان فعليه أن يطلبها، ولكن هذا الطلب غير المشروط كان ينجم عنه نظام القِيَم الذي ظلت الحضارة مشتبكة فيه إلى الآن. فهنا أتى نيشته بفكرة (وراء الحسن والقبح) فإرادة القوة عنده لا تعرف حدود الحل والحرمة، والحسن والقبح، لأن كل شئ مصدره ونهايته قوة، عندها حلال وحسن، وكل شئ مصدر ونهايته ضعف، عندها حرام وقبح، والعقائد كذلك ليست عندها متساوية متماثلة، فالفرق الحقيقي بينها ليس عندها من حيث كونها حقاً وباطلاً، بل من حيث كونها مفيدة وغير مفيدة. وهكذا شعرت أرستقراطية نيشته بضرورة أي تغيير جميع القِيَم، فمثل في أن واحد دور الفيلسوف، والمصلح الأخلاقي، والشارع، وخالق الحضارة الجديدة. وكان في دور ارتقاء أفكاره الأخير شاعراً بمهمته هذه.
فعلى هذا النمط وصل نيشته إلى تصور كمال الإنسانية في صورة (سوبرمان) بازاء عامة الناس الذين هم موضع قنوطه ويأسه. فأنشأ فكرته الجديدة للحضارة بتوزيع الاجتماع الإنساني في طبقتين متناقضتين: ذات أخلاق السادة وذات أخلاق العبيد. وقرر أن الأولى منشأ سوبرمان، وأن لأفرادها وهم الأقوياء حق معاملة أفراد الأخرى وهم الضعفاء بالظلم والعدوان، وإن واجب القوى في شريعة الارتقاء وتنازع البقاء الولوغ في دماء الضعيف وفتح جميع أبواب الجور عليه بكل وحشية، فإن السوبرمان أو الإنسان القوي الكامل الصالح للحياة لا يظهر إلا بتدمير الضعيف غير الكامل وغير الصالح للحياة. وأما طبقة الضعفاء أو (ذوو أخلاق العبيد) كما يسميهم هو فقد خلقوا لأستمال الأقوياء فقط، وهم موضع بأس نيشته، لذلك سد عليهم نيشته جميع أبواب التقدم كما سدت ديانة البراهمة على المنبوذين في الهند.
فلذلك كان تصور الخليفة لدى إقبال خيراً من تصور السوبرمان عند نيتشه، لأن روح أفكار إقبال الديمقراطية الإسلامية فالخليفة عند إقبال شخصية محبوبة إلى جميع طبقات البشر تسعى لخيرهم، وتسبغ من خصب طبعها عليهم وتقربهم إلى نفسها؛ فكلما تتقربوا إليها تتدرج حياتهم في مدارج الكمال؛ وهي تمثل اللين كما تمثل الشدة. وهاتان الصفتان لا