وداروين. فقد استنبط من نظرية العلم لكانت أن ليس هناك شئ يقال له علم، بل كل شئ خيال ووهم، وذلك لأن الحقيقة لا يكشف عنها بل تُخلق، ولا يبحث عنها بل تُخترع، وهو أيضاً قد قرر مثل شوبنهاور أن حقيقة الكائنات القصوى هي الإرادة، ولكن ليست (إرادة الحياة) كما رأى شوبنهاور بل (إرادة القوة)، وهي عنده مصدر كل خير وفلاح كما أن (إرادة الحياة) عند شوبنهاور منبع كل شر وخسران. وما أحسن قول البعض أن ما يراه شوبنهاور شيطاناً يراه نيتشه إلهاً.
يرى نيتشه أن (إرادة القوة) هذه دافع قويّ غريزيّ سارٍ في الكائنات، فهو مركز الحياة الإنسانية، بينما إقبال يرى أن مركز حياتها هي الأنانية المتصفة بحالة الجد المستمر. ولكنهما يتفقان في أن خوض غمار الآلام ومكابدة المصائب، ومعاناة النوازل، مما لا محيص عنه لصعود الإنسانية في معارج الشرف ولبلوغ تقدمها غاية الكمال. ويتفقان أيضاً في أن هذا العالم المادي هو ذريعة إلى تلك البغية ووسيلة إلى ذلك المطلب، وأن الفن يجب أن يكون ملتقى الجمال والقوة كما يتفقان في أن فلسفة الأخلاق المسيحية غير وافية لضروريات تقدم الإنسان وتسمنه ذروة الكمال. غير أن نيتشه قدح فيها قدحاً شديداً وانتقدها انتقاداً لاذعاً وصرح بأن المسيحية تدعو إلى (أخلاق العبيد) في حين أن إقبالاً اكتفى بالإشارة إلى أنها غير مفيدة للإنسانية لأنها لا تقدر على إماطة اللثام عن قواها الخفية، ولا على الكشف عن استعداداتها المكنونة، وذلك لأنها تدعو إلى الرهبة وترك العالم. وبناء عليه فدعوة إقبال خلاف ذلك كما قال في بيت ترجمه:
غص في البحر وحرب الأمواج ... فإن خلود الحياة في المحاربة
يتفق إقبال ونيتشه في تصور كمال الإنسانية؛ بيد أن نيتشه يراه ممثلاً في سوبرمان (أي فوق البشر) وإقبال يراه في خليفة الله. والفرق الأساسي بين تصوريهما هو أن نيتشه ينكر وجود الله ويقول:(اقتلوا الله! كل شئ مباح. إن الطبيعة والدوافع الطبيعية ليست شراً. ابْعدوا الحياء والكظم! ابْعدوا الأدب والتقيد! إن أخلاق الرجل الحر ستكون الأخلاق المعبرة عن الذات حقيقة)، وعلى هذا فسوبرمان نيتشه محصور في نفسه ومحدود في ذاته، ليس لديه غاية يجري إليها ولا هم يتفرّغ له. وأما الخليفة عند إقبال فحياله الأنانية العظمى، أي الله ذو الرحمة الواسعة، وصاحب العطاء المتصل، فله عنده الدرجات العلى، يجزي بها بما