وأما بعد، فالقصة في هذه الفلسفة قصةُ رجل فاضل مهذب قد بلغ من العلم والشباب والمال، ثم امتحنته الحياة بمشكلة ذهب فيها نومُ ليله وهدوءُ نهاره حتى كسفت باله وفرّقت رأيه وكابد فيها الموت ليس بالموت وعاش بالحياة التي ليست بالحياة.
قال: فقدت أمي وأنا غلام أحوجَ ما يكون القلب إلى الأم، فخشي عليّ أبي أن أستكين لذلة فقدها فيكون في نشأتي الذلُّ والضراعة، وكبر عليه أن أحس فقدَها إحساس الطفل تموت أمه فيحمل في ضَياعها مثل حزنها لو ضاع هو منها. فعلمني هذا الأب الشفيق أن الرجل إذا فقد أمه كان شأنه غير شأن الصبي لأن له قوة وكبرياء، وألقى في روعي أني رجلٌ مثله، وأن أمه قد ماتت عنه صغيراً فكان رجلاً مثلي الآن. . .
وكان من بعدها إذا دعاني قال: أيها الرجل، وإذا أعطاني شيئاً قال: خذ يا رجل، وإذا سألني عن شأني قال كيف الرجل؛ وقلّ يومٌ يمرُّ إلا أسمعنيها مراراً حتى توهمتُ أن معي رجلاً في عقلي خلقته هذه الكلمة: وتمام الرجل بشيئين: اللحيةُ في وجهه، والزوجة في داره، فتجيء الزوجة بعد أن تظهر اللحية لتكون كلتاهما قوةً له، أو وقاراً أو جمالاً، أو تكون كلتاهما خشونة، أو لتكونا معاً سوادين في الوجه والحياة. . .
أما اللحية لي أنا أيها الرجل الصغير فليس في يد أبي ولا في حيلته أن يجئ بها، ولكن الأخرى في يده وحيلته؛ فجاءني ذات نهار وقال لي: أيها الرجل! إن فلانة مُتسماةٌ عليك منذ اليوم فهي امرأتك فاذهب لترى فيك رجلها. وفلانة هذه طفلة من ذوات القربى، فأفرحني ذلك وأبهجني؛ وقلت للرجل الذي في عقلي: أصبحتَ زوجاً أيها الرجل. . .
وكان هذا الرجلُ الجاثمُ في عقلي هو غروري يومئذ وكبريائي، فكنت أقع في الخطأ بعد الخطأ وآتي الحماقة بعد الحماقة، وكنت طفلاً ولكن غروري ذو لحية طويلة. . .
ونشأتُ على ذلك صلب الرأي معتدّاً بنفسي إذا هممتُ مضيت، وإذا مضيت لا ألوي؛ وما هو إلا أن يخطر لي الخاطر فأركبَ رأسي فيه، ولأن تكسرَ لي يدٌ أو رجل أهونُ علي من أن يكسر لي رأي أو حكم؛ وأكسبني ذلك خيالاً أكذب خيال وأبعده، يخلط عليَّ الدنيا خلطاً فيدعني كالذي ينظر في الساعة وهي اثنا عشر رقماً لنصف اليوم الواحد، فيطالعها اثني عشر شهراً للسنة. . .