الطاقي وأما إذا غضضت البصر عن أصل المادة الأول، ونظرت إلى الحقائق كما هي، مرتبطاً بعضها ببعض ارتباط العلة بالمعلول، فذلك هو ما يسمى بالمذهب الوضعي. . . وكثيراً ما يطلق اسم (المادية) على هذه الشعوب كلها. لأنها مهما اختلفت فهي لم تزد على أن تناولت ظواهر الطبيعة المادية بالشرح والتعليل.
وإن هذا المذهب الطبيعي ليبلغ أقصى قوته حينما يقف موقف الإنكار والرفض بإزاء ما يتعلق به الإنسان من صنوف العقائد وضروب الخيال، فهو لا يتردد في أن يتناول الأديان بكفه الباردة فيسحقها بين أنامله، لأنه لا يرضيه أن ينظر إلى الأشياء والحقائق نظرة مجردة عارية من كل ما ألبسها الإنسان من زخرف العقيدة وطلاء الخيال، فبقذفه واحدة ألقى في اليم كل ما أنتج الفكر البشري من آراء عن عالم الغيب المجهول، ولعله بذلك قد كفى نفسه مؤونة البحث في هذا المطلب الشاق العسير.
وما دام هذا المذهب الفلسفي قد رفض عالم الغيب رفضاً قاطعاً، فهو إذن لا يعترف بالله إلا أن يكون ذلك هو الطبيعة نفسها، أو الإنسانية، أو ما شئت من ظواهر الكون المحسوس؛ وهو كذلك لا يقر الخلود إلا إذا قُصد به آثار الإنسان الخالدة وظهوره في أعقابه وما إلى ذلك من ضروب البقاء؛ أما أن يذهب الظن بالإنسان أنه باق بعد الحياة بقاء روحانياً فوهم خاطئ في رأي هذا المذهب، إذ ما بقاؤه وهذا جسده قد تبدد أشتاتاً فكان منه الشجر والحجر؟ ستقول إنه باق بروحه دون جسده، ولكن ما هو ذلك الروح؟ أهو جزء من الطبيعة أو عنصر شاذ لا يستقيم مع مادتها ولا يخضع لقانونها؟ اللهم أن كان هذا فلا روح، لأنه ليس في الطبيعة إلا الطبيعة نفسها!
وهذه الطبيعة تسير وفق سنن معروفة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، فلكل ظاهرة من ظواهرها أسباب لا بد أن تنتج مسبباتها، دون أن تحول بينها وبين ذلك معجزة أو خارقة، ودون أن يكون في مقدور الإنسان أن يغير من مجراها بما يزعم لنفسه من إرادة حرة، فليس الإنسان حراً فيما يفعل وفيما يترك، إنما هو آلة مجبرة على السير في طريق رسمتها له الطبيعة كما رسمتها للأنهار والأشجار والأحجار والكواكب وسائر ألوان الجماد. ولكن الإنسان المغرور كثيرا ما يلقي في روع نفسه أنه حر التصرف برغم أنف الطبيعة، فيقول مثلاً: إني لم أقرر بعد ماذا أصنع في كذا وكذا، ونسي المسكين أن مجموعة الذرات التي تتكون