منها مادته قد قررت له ما يصنع - جهل بذلك أو علم - ولم تكن فيما قررت بمعزل عن سائر الكون، بل اشتركت في تقريره مع العالم كله، مع الطبيعة بأسرها. فخفف من غلوائك أيها الإنسان، واعلم أنك لا بد فاعل ما أريد لك أن تفعله، إذ ليس لك عن فعله منصرف ولا محيص.
ومن منا لا يلوي شفتيه من الغضب، كلا، بل من ذا الذي لا يبتسم ساخراً من هذا المذهب الذي يريد أن ينتزع من الإنسان أعز جوانبه وأنفس عناصره؟ إنه يريد أن يسلبه إرادته فإذا هو صخرة تتحدر من قمة الحياة إلى واديها مدفوعة بقوة القانون! وليس له أن يقف حيث شاء ولا أن يسلك من السبل ما يشاء! كيف أكون مكتوف الإرادة وهأنذا أحب هذا فأعمله وأكره ذلك فأتركه؟ فبماذا تسمي هذا إن لم يكن إرادة حرة مطلقة التصرف؟ ولكن هاك ما يجيبنا به (سبنسر): نعم إنك تعمل ما تحب وتترك ما لا تحب، ولكن هل علمت أنك لا تحب إلا ما رغبت فيه الطبيعة؟ أن مولاتك الطبيعة قد حببتك فيما تراه هي صالحاً لسيرها، ونفَّرتك مما رأته مضراً بها معطلاً لها عن المضي في سبيلها. فما أحببت أن تعمله إن هو إلا ما أرادتك الطبيعة على حبه:(إنك تستطيع أن تعمل كما تحب، ولكنك لا تستطيع أن تحب كما تحب). فاختيارك هذا الشيء ورفضك ذاك، هو الوسيلة التي تتخذها الطبيعة لتنفيذها إرادتها في سلوك الإنسان.
وأين المفر من الطبيعة وهي لا تني تذكرنا بما لها علينا من نفوذ وسلطان؟ فطر بالخيال إلى حيث شئت، فأنت مضطر آخر الأمر أن تنزل في معمعان الحياة لكي تضعك بين مطرقة الحقائق الواقعة وسندانها، تنظمك في سلكها، ولا تخلي بينك وبين خيالك! تحدَّ الطبيعة ما استطعت إلى تحديها من سبيل، وسترى نفسك بعد حين قصير مرغماً على التسليم والخضوع، وإلا فماذا أنت صانع أمام غائلة الجوع سوى أن تقتات بما يقيم الأود؛ ثم ماذا أنت صانع إذا أضناك الإجهاد وأعياك العمل إلا أن تسلم بضرورة النعاس؟ ثم ماذا تجدي إرادتك مهما بلغت قوتها أمام الموت إذا دنا الأجل؟ فالطعام والشراب والنوم والموت إعتراف متواصل بخضوع الإنسان لضرورات الطبيعية مهما يكن طاغياً جباراً.
وكأني بالعلوم جميعها تناصر هذا المذهب وتؤيده، وتكاد تضطر العقل اضطرارا إلى اليقين بأن ما يقع في الطبيعة من أحداث مهما اختلف لونها وتباين شكلها خاضع للعلم وقوانينه