التي تضرب بنفوذها على أطراف الكون فلا تدع جمالاً ينفذ إليه شيء من القوة المزعومة فيما وراء الطبيعة. وإن احتججت على العلم بأنه مبالغ في شأن نفسه مسرف في تقدير عمله، وأنه لا يزال قاصراً عن إدراك الحقائق كلها، فكيف يحق له أن ينكر شيئاً قد يكون جزءاً مما لم يدركه بعد؟ نقول إن احتججت على العلم بهذا أجابك في يقين ثابت، وكله أمل ورجاء: هأنذا أسير وأتقدم، ويستحيل ألا يؤدي هذا السير المطرد إلى حل ألغاز الكون كلها، ولا بد لي أن أصل يوماً إلى غاية الطريق، فإن لم يكن ذلك بعد حين قريب فامتداد الزمن كفيل بكل شيء، وإن العلم ليتمسك بتطبيق قانون (العلة الواحدة) الذي صاغه (وليام أوكام)، والذي مؤداه أن ما أمكن تعليله بعلة ما لا يجوز تعليله بعلة أخرى. وبناء على هذا القانون لا ينبغي أن نضيف إلى الظواهر الطبيعية التي أمكن تعليلها بقوانين العلم عللاً أخرى مما وراء الطبيعة، فإن تمكن العلم أن يتتبع حقائق الكون بالتفسير واحدة فواحدة وجب حتماً ألا نتردد في إنكار كل قوة أخرى.
ولكن إذا كان أنصار هذا المذهب يريدون أن يحتكموا إلى العلم في كل شيء، وأن يفسروا به كل ظاهرة من ظاهر الوجود، فماذا هم قائلون في تعليل ظاهرتي الحياة والعقل اللتين تبدوان كأنهما شاذتان نابيتان لا تخضعان لقوانين الطبيعة التي تنتظم الجماد؟ وأين الجماد من الحياة المتوثبة والعقل المفكر؟ إنه إن صح مذهبهم للزم أن تكون الحياة قد تفرعت من الجماد الذي لا حياة فيه، ويستحيل أن يتفرع شيء من أصل لا يحتويه! إنك تستطيع أن تعلل بالعلم كل ما هو آلي رتيب، ولكن كيف بالحياة عامة والعقل بنوع خاص، وبينهما وبين الجماد الآلي من مسافة الخلف ما يكاد يجعلهما ضدين نقيضين؟
إن للكائنات الحية طابعاً يميزها عن الجماد تمييزاً واضحاً، ولعل خير ما يوضح ذلك الطابع المميز هو كلمة (بنفسها). فالكائن الحي يبني نفسه بنفسه، ويصلح عطبه بنفسه، ويدبر أمره بنفسه، ويعمل على حفظ بقائه بنفسه؛ نعم هنالك آلات تطعم نفسها ولكنها لا تنمو بما تطعم، وهنالك آلات تكتب من تلقاء نفسها، وسابحات في الماء تقود نفسها، ولكن هذه جميعاً لا تصلح لنفسها ما يصيبها من عطب، ولا تستطيع أن تلائم بين دخيلة نفسها وبين الظروف الخارجية المحيطة بها كما يفعل الكائن الحي؛ وليس بين الآلات أو صنوف الجماد ما ينشئ في باطنه نواة في مقدورها أن تنمو إلى ما يشبه الأصل الذي تفرعت منه،