للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

زورقين يتباريان، لا أدري كم سبحنا ولكنا انتهينا إلى البر، فأخذ فانوسي يحس ما حوله قليلا قليلا، وكان الجهد قد بلغ مني مبلغه، ولكنه كان أشد تعبا، وكنت أرى عليه خمار الكد والنعاس، تارة يصطدم كالأعمى بجدار غير مطلي، وتارة تتساقط أشعته الميتة على قبر، وحينا ينطلق تحت سقف دار خربة، وحينا يتخطى معبدا دارسا، وطورا أراه يطوف في زوايا مقفرة مخوفة، ثم يعترض أفظع الرجال لقاء غير هياب.

وعارٍ تدثر في ثوب من حالك الليل، يأوي إلى طنف، هو والويل مضطجعا في مهاد من الرغام. تخاله نائما وكيف ينام؟

وجماعات من البؤساء، ضن عليهم بالبيوت الشقاء، وأوكار خرست أصداؤها، وبيوت خاوية على عروشها، وأسراب النساء أشتات مطلقات، وأشتات من أفراخ هذه الزيجات المبثوثة، وأكوام من القمامات جاثمة في الظلمات: أسرات هائمات في الأزقة تحمل بيوتها على ظهورها، وقاطع طريق بالليل وهو في وضح النهار سائل، وشريد، وشحاذ، ولص وقاتل.

مناظر هائلة كلما بصر بها الفانوس الأعمى أبى إلاّ أن يريني إياها ولست أدري لماذا.

شرب الفانوس من ماء المطر فقال (جز) لا فظاً آخر أنفاسه. فانقلبت أعمى يتحسس طريقه بالسمع واللمس، وما أشد هذا هولاً! وصارت العكازة لي عينا ويدا ورجلا، لا أكذب الله، لقد استشعر قلبي الفزع.

أشكر الله، هذه ثلاثة فوانيس تمر أمامي. فلو استقامت على الطريق غير معرجة فسرت في أثرها! ما حاجتي إليها. قد اهتديت الطريق. أقول (اهتديت الطريق) وقد بلغت غايتي فهذه دار صديقي القديم. أأرى ضوءً؟ إن لم يكن فلا ريب إنه قد هجع. لابد أن يكون في وسط الباب حبل في طرفه خشبة، فإذا وجدته فجذبته ففتحت الباب. أجل. ولكن الباب موجف أحسب أن خارجا قد خرج الآن. ما لي ولهذا؟ قذفت نفسي داخل الدار ونزعت الجرموق من رجلي وتقدمت ثم ملت ذات اليمين فإذا سلم ذا أربع مراق أو خمس شق عليّ الارتقاء فيه قليلا. وملت نحو اليسار، وعالجت الستر الغليظ البالي المنسدل على الباب فوقع في أذني صوت الصديق الفقير.

(أين كنت يا بني؟ ما تفقدتني قط. لك العذر، والذنب لي إذ لم أخبرك. أعرف أن عملك

<<  <  ج:
ص:  >  >>