للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كثير وان دارنا بعيدة. هلم فأسترح قليلا فلا شك أنك قد جهدت. أوقدت جارتنا النار منذ قليل فإن تكن مقرورا فأنبش في الموقد، قلّب النار وأصطل)

كانت غبشة الحجرة موحشة، فقلت لو أضاء هذا الفانوس! وقدحت علبة من الثقاب حتى أمسكت آخر الأعواد فأدنيته من رأس الشمعة فهبط النور على عينها العمياء، كما تكحل العين بالميل. انفتح ستر الظلام قليلا فتجلى للعين مرأى البؤس العريان. فلو كنت شاعرا ما استطعت أن أصوره، فإنها فلاكة لا يدركها الخيال. زحف (سيفي بابا) إلى الموقد ناشرا على ركبتيه عباءة بالية.

قد أغلى جارنا الزيزفون منذ حين فلو وجدناه! لا تقم، أنا أبحث عنه.

(إن أصبناه شربنا منه فهو نافع. هذا هو ذا يا بني. لا تبحث لا تبحث)

ووقعت يدي على مغلاة بطينة فأخذت أغلي الماء وأسقيه قدحا بعد قدح، فاستبان الدم قليلا في وجه صاحبنا الهرم.

- خبرني ماذا كانت علتك؟ لعل زكاما أصابك فهذا شتاء قارس جدا.

- قطر الماء من سقف محمد أغا وصعدت إلى السطح لإصلاح القراميد فأصابني البرد منذ خمسة عشر يوما. قل: ما لك وللقراميد أيها الأحمق! أراني العام مشترك اللب، ولست أدري أهي الشيخوخة أم ماذا. ولكن هب أني لا أصعد إلى السطوح لإصلاح القراميد فمن لي بالخبز؟ أيحسن أن أقعد كالأعمى وأبسط يدي إلى كل لئيم؟ يا بني من لم يكدح من أجل الخبز في هذه الدنيا فهو عار الأصدقاء، وسخرية الأعداء. وإلاّ فالشيخ الذي جاوز الخمسة والسبعين ليس كفئا للعمل، وليس عليه إلاّ أن يفرغ للوضوء والصلاة. مرضت فلم أجد أحدا يمرضني. عثمان دائب ليل نهار يطلب عملا يقتات منه. ولست أدري متى تدرك يده القوت. نحن في الساعة الثالثة الآن وهو لم يعد. ما أفضع الوحدة! يمضي الأسبوع يا بني لا يسقط إليّ أحد. قد بلغت مني الوحدة هذه المرة ما لا أطيقه.

- سأعرقك وأثقل غطاءك هذه الليلة فإني أحسبك إن عرقت كثيرا تماثلت.

دع الشيخ يعرق ملففا في لحافه. . . رقدت على كليم بجانب الموقد وشرعت أتحسس النوم ولكن هيهات هيهات. . وكان التعب قد غلبني فأغفيت، فلما لاحت تباشير الصبح استيقظت فقلت ينبغي أن أنصرف، ولكن لابد أن أدخل السرور على هذا الشيخ المعدم. لم أجد في

<<  <  ج:
ص:  >  >>