بجوار قرطبة على نهر الوادي الكبير وأسماها الزاهرة، وجعلها قاعدة الحكم، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة ودوائر الحكومة، واتخذ سمة الملك وتسمى بالحاجب المنصور.
وهكذا فقدت الزهراء صفتها كقاعدة رسمية، وشاءت الأقدار ألا تكون منزل الملك والخلافة إلا في عهد مؤسسها وخلفه الذي أكمل بناءها. وكان قيام الحاجب المنصور في الواقع خاتمة لسلطان بني أُمية، ولم يبق لهم بعد ذلك من الملك سوى الاسم؛ وقد بقيت الزهراء حيناً آخر مقاماً ملوكياً للخليفة المحجور عليه، ولكنها فقدت إلى الأبد أهميتها السياسية، وروعتها الملوكية.
ثم كانت المحنة الكبرى بانهيار هذا الصرح البديع الذي شاده بنو أُمية بالأندلس، وانهيار الخلافة الأموية والدولة العامرية معاً، وسقوط الأندلس صرعى الحرب الأهلية. ففي سنة ٤٠١هـ (١٠١١م) زحف سليمان المستعين زعيم الثورة الأموية على قرطبة لينتزعها من المؤيد وواضح الحاجب التغلب عليه، ثم هاجم مدينة الزهراء واقتحمها، وفتك أنصاره البربر بسكانها، وعاثوا في معاهدها ورياضها، وأحرقوا المسجد والقصر؛ والظاهر أن الضربة كانت قاضية، فلم يبق من الضاحية الملوكية الباهرة سوى أطلال دارسة، ولا يكاد اسم الزهراء يذكر بعد ذلك في التاريخ الأندلسي إلا كأثر عصفت به صروف الدهر؛ وقد كانت الزهراء أيام روعتها وازدهارها وحي الشعر الرائع والخيال الرفيع، وقد تغزل بجمالها وفخامتها جمهرة من أكابر شعراء الأندلس وأمراء البيان، ثم رثوها بعد ذلك في مقطوعات مؤثرة؛ ومما قاله ابن زيدون أعظم شعراء العصر يشيد بالزهراء ورائع ذكرياتها:
خليلي لا فطر يسر ولا أضحى ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى
لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل ... أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا
معاهد لذات وأوطان صبوة ... أجلت المعاني في الأماني بها قدحا
ألا هل إلى الزهراء أوبة نازح ... تقضت مبانيها مدامعه سفحاً
مقاصر ملك أشرقت جنباتها ... فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحا
يمثل قرطبها لي الوهم جهرة ... فقبتها فالكوكب الرحب فالسطحا
محل ارتياح يذكر الخلد طيبه ... إذا عز أن يصدى الفتى فيه أو يضحا