إذ الفكرة الصائبة توضح السبيل وتيسر الطريق، وتعمل على استمرار البقاء واجتناب الخطر؛ وعلى نقيضها الفكرة الخاطئة، فهي مضللة للإنسان مبعثرة لجهوده في غير ما طائل، بل إنها قد تضره وتؤذيه وتؤدي به إلى الموت. ولما كانت العقائد الدينية مجموعة آراء نسجها الإنسان ووشج بينها، كان لنا أن نقول إنه كلما بعدت العقيدة عن الصواب كانت أدنى إلى إيذاء الإنسان والعمل على تدهوره، ولكن مما يهون الأمر أن الفكرة الخاطئة لا يستفحل خطرها وأذاها إلا إذا مست حياة الإنسان العملية فأثرت فيها أثراً مباشراً، فإن لم تكن كذلك كانت قليلة الخطر أو عديمته؛ فلما كان الإنسان مثلاً في العصور القديمة لا يتعدى بأسفاره ورحلاته نطاقاً محدوداً ضيقاً، لم تكن لتؤذيه فكرة أن الأرض مسطحة على خطئها، فالخطأ والصواب في مثل هذه الحالة سواء، بل كثيراً ما يكون الخطأ أنفع للإنسان من الرأي الصحيح كأن توهم المشفى على الموت بأنه قوي سليم.
وعلى هذا النحو كانت فائدة النظرة الروحية في مراحل الإنسانية الأولى، إذ كانت العقيدة أقوى حافز يدفعه إلى العمل والنشاط حينما كان الإنسان أشد ما يكون حاجة إلى التشجيع. فقد كان أول أمره يهيم مع أوابد القفر وضواري الغاب، يعيش لساعته عيش الحاجة والضرورة، فلما أراد أن يعلو على مستوى الحيوان وأن يتخذ لنفسه في الحياة منزلة رفيعة ومكانة ممتازة بين الأحياء، مستعيناً بما أوتي من عقل وخيال، رأى أن الوسيلة الأولى هي أن يحطم أغلال الضرورة ما استطاعت حيلته، وأن يوسع من أفق زمانه فينفذ ببصره إلى الغد، مهنا يعيش في جو من أحلام ينسجها لنفسه بقوة خياله، وسرعان ما ألقى في روع نفسه أن هناك - فوق العالم الذي يرى - قوة سامية سترعاه وتأخذ بيده مما يصادفه في حياته من عسر وإشكال، وتمكنت من نفسه العقيدة بأن تلك القوة العليا ستكون له خير هادٍ ومرشد في طريقه نحو الكمال الذي أخذ يرجوه ويبتغيه بعد أن نقض حياته الحيوانية الأولى، وتحرر من رق الضرورة واستعبادها.
تلك كانت نواة العقيدة الدينية التي عملت فيما بعد على تماسك الأفراد وترابطهم في تكوين المجتمع، إذ أوحت إلى الناس ضرورة احترام العادات والتقاليد التي هي الأساس الأول في بناء المجتمع، كما خلعت على السلطة المدنية مسحة مقدسة زادت من هيبتها واحترامها؛ وبديهي أنه لا بقاء لمجتمع بغير سلطان محترم مهيب، وهكذا كان الدين عماداً قويماً في