بناء المجتمع أول الأمر كما كان خير مدرب لمشاعر الإنسان وعواطفه، إذ راضها وصقلها وأجراها في سبيل صالح مستقيم، ولعل هذا هو السبب الذي من أجله كان الدين كنفاً ترعرعت في ظله الفنون الجميلة على اختلافها إبان طفولتها.
كل هذه حسنات للدين مشكورة غير منكورة، ولكن قد يكون هذا الذي عاون الإنسان على السير في أول الطريق عائقاً يحول اليوم دون تقدمه، وقد يكون (فرويد) العالم النفسي الكبير مصيباً في رأيه بأن الدين صالح لتقويم الأخلاق إبان الطفولة حتى إذا ما نضج الإنسان كان لزاماً عليه أن يواجه مشكلات الحياة العملية في صرامتها وجدها، ولا ينبغي أن نطيل الوقوف عند هذه المرحلة الأولى - مرحلة الأحلام الجميلة والآمال الحلوة بأن قوة سامية ستحول بين صدورنا وبين ضربات القدر وسهامه، فلئن كان الدين قد ساهم بقسط وافر في تطور الحياة البشرية ورقيها فلقد فرغت رسالته وأصبحت الإنسانية اليوم في مرتبة من رشد الكهولة تجعلها في غنى عنه.
ويقول أوجست كونت في هذا الصدد إن طريقة تفكير الإنسان بازاء العالم قد سارت منذ نشأتها إلى اليوم في مراحل ثلاث: الأولى هي المرحلة اللاهوتية حيث كانت تُفسر. الأحداث بقوى الآلهة؛ والثانية، وهي المرحلة الغيبية حيث كان الإنسان يعلل حوادث الكون بمجموعة من القوى، فيعزو الحياة إلى القوة الحيوية، والنار إلى الحرارة، وسقوط الأجسام إلى قوة ثقل الجسم؛ والمرحلة الثالثة هي المرحلة الإيجابية التي فيها يفسر الناس ظواهر الوجود بأسباب مباشرة تسبق حدوث الظاهرة المعينة، فإذا وقعت العلة جاء في أثرها المعلول تبعاً لقانون معروف؛ وهذه المرحلة كما يقول كونت هي أسمى مراحل العقل البشري، وهي المرحلة التي تجتازها الإنسانية اليوم. وهكذا يدعو أصحاب المذهب الطبيعي إلى نبذ العقائد على الرغم من رسوخ قدمها في النفس وتأصل جذورها في القلوب، ويهيبون بالناس أن يواجهوا حقائق الكون الواقعة في شجاعة وإقدام.
والعجيب أن هذا المذهب الطبيعي لم يعدم في كل عصر من عصور الفكر ظهيراً ونصيراً، فقد وجد بين فلاسفة الإغريق من يقيمه ويؤيده كديمقريطس؛ ووفق في مستهل العصر الحديث إلى رجل مثل (توماس هويز) الذي أخذ على نفسه أن يفسر كل شئ في الوجود على أنه مادة متحركة ليس إلا، فتناول العقل نفسه وقال إنه نتيجة لجملة الأحاسيس التي