الغاية، وتمحيص الرأي حتى لا يتعثر في درجه مع سيل الحوادث.
ذلك فضل الأدباء والشعراء والخطباء والكتاب، وموضع الأدب هنا موضع السابق من المسبوق، والمتبوع من التابع.
ولا نغفل هنا أن الأدب لا يكتفي بالسبق، ولا يقنع بالقيادة: بل إنه ليلقى الانقلاب السياسي في الميدان بعد أن أفسح له الطريق فيدارجه ويرعاه بما يقويه، ويبعث النشاط في نواحيه، ويهدي الأمة في جهادها فيه، ويقف التاريخ السياسي والاجتماعي حيث قدر له أو حيث أراد، ولكن التاريخ الأدبي لا يقف عند هذه الغاية. بل يسير بعد ذلك ويمتد أثره: فما يزال أهل الأدب بعد الحدث السياسي أو الاجتماعي يحبُون الأمة بفضلهم، ويتعهدونها ببرهم، ويخرجون لها جميل آثارهم، ونتاج قرائحهم: يتحدثون عن الماضي وما كان فيه، ويذكرون الحاضر، ويستشرفون بالأمل في المستقبل، فتربو ثروة الأدب وتنمو. ويتسع مجال القول، وتخلد للأمة آثار تبقي ما شاء الله على تطاول الزمن.
ولا نُغفل كذلك أن الأدب في هذا الوضع يفضل السياسة من حيث ما تفيد الأمة من كليهما: ذلك بأن الانقلاب السياسي أو الاجتماعي غير مأمون العاقبة: فالأمة في سبيلها إلى الغاية السياسية أو الاجتماعية التي تقصد إليها يعرض لها ما يعرض للضاعن في طريقه: فقد تعيا فلا تصل إلى الغاية، أو تتكاءدها عقبات تحول دون الفوز بالمقصد؛ وقد تهب عليها من أية ناحية إعصار وأنواء تصدف بها عن المحجة، وتلوي بها عن القصد، وتضلها عن السمت، فلا تبوء الأمة بعد جهادها الطويل أو القصير إلا بالفشل فيما قصدت إليه، وخسران الأنفس والأموال فيما سمعت له، بَلْهَ جزيرة ذلك على حاضرها ومستقبلها.
أما النهضة الأدبية فقاعدتها بقاء الأصلح. وحكمها فناء السقيم: فمتى نهض أهل الأدب وبرزوا للناس بفضل أقلامهم فذلك هو الخير الذي لا سبيل إلى التشكك فيه من حيث هو ثروة وعتاد في الأدب. والبقاء مكفول لهذه الثروة ما بقي في الدنيا أدباء ومؤرخون؛ ولا بقاء للأدب الرخيص فإنه يذهب جفاء في اللحظة التي يظهر فيها للوجود. ومهما تكن النتائج السياسية أو الاجتماعية التي مهدت لها النهضة الأدبية أو كانت سبباً فيها فهذه النهضة الأدبية لها قيمتها في ذاتها وفيها خيرها من ساعة ميلادها: لا يغض من شأنها، ولا ينقص من قدرها، ولا تمتد إليها يد غاصب، ولا تعبث بها يد ظالم. ولا نقصد بقولنا إن