الأدب الرخيص أو السقيم لا يقوى على الحياة أن أدب الأمة ما بقي لا يكون إلا قيماً ثميناً، إنما قصدنا إلى أن الأدب في فضله وما يتروى الناس منه كالكنز يخرج من بطن الأرض له قيمته وقدره، وقد يكون الكنز ذهباً أو فضة أو معدناً دون الذهب والفضة، ومهما يكن من شئ فهو ثروة لها قدرها ووزنها.
ولكن هناك شروطاً لا بد من وفائها حتى يفيض الأدب فضلاً على أمته، ويبلغ القصد من محجته، في هذا الوضع الذي بيَّنا: أولها أن تكون في الأمة حياة أدبية تثبت وجودها قبل الأحداث السياسية، وتستطيع أن تشق طريقها في ظلمات الانقلاب، وتسلك نهجها تحت عواصف الثورة، وتقوى على البقاء بعد أن تهدأ العاصفة؛ وثانيها أن تكون الأمة موفورة الحق في المتعة بحرية القول والبيان عن جدارة واستحقاق فلا تكتم عن الحق أفواه الخطباء، ولا تكتم عن الصدق أنفاس الشعراء، ولا تزم عن الكتابة أنامل الكتاب. وثالثها: أن يكون سواد الأمة مثقفاً ثقافة أدبية؛ فبغير هذا لا ينبت لأهل الأدب زرع، ولا يدر لهم ضرع، ولا يصيخ لهم سمع. وأقرب المثل لهذا الوضع وهذه النتائج الثورة الفرنسية ونهضة الأدباء قبلها وأثناءها وبعدها. وذلك مالا يحتاج إلى بيان.
أما الأمم الواهنة المستضعفة فالعلاقة بين تاريخها السياسي والاجتماعي وتاريخها الأدبي مضطربة متبلبلة، لا تسير على نهج واضح، وتنقطع حيناً وتتصل حيناً، وتضعف وتقوى؛ ذلك بأنها لضعفها واستكانتها وفرط ما كرثتها الحوادث تسلم سجل تاريخها السياسي للقدر، أو لمن بيده أمرها؛ يقلب صحافته كما يشاء، ويمحو ويثبت فيه ما يشاء. فلا موضع للقول بأن لأدبائها أو لتاريخها الأدبي أثراً في خلق انقلاب سياسي فيها، أو التمهيد له، أو تقويته، أو تعهده. فإذا حدث فيها انقلاب سياسي فهو في أغلب الأحيان مقطوع الصلة بحالتها الأدبية؛ على أنه إذا جد الجد، وقويت حركة الانقلاب السياسي وغلت مراجله حتى تنفست عن ثورة حادة، أو ما يشبه الثورة الحادة، فقد يؤثر ذلك في تاريخ الأمة الأدبي، فيطلق الألسنة من عقالها، ويمد القرائح بغذائها، فتنطلق في الجو صيحات تكون خافتة في مبدئها، وتستسلم بعد ذلك للأقدار، فأما أن تقوى وتشتد، وأما أن تضعف وترتد.
وهنا نرى للأدب فضلاً آخر لا يجوز إغفاله: ذلك بأن الأمة التي وصفنا قد تعوزها في جهادها السياسي وسائله وعدته، أو يقعد بها ضعفها عن النهوض له فتستخذى وتستسلم