للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وخطواتها المتزنة الحازمة.

كم كانت رائعة صبغة الخجل الوردية التي اصطبغت بها أذناها لما سألتها عن اسمها، وهل فكرت في صلاتها في غير أهلها ممن تعرف من الناس!؟ لقد حيرها سؤالي فارتبكت وسكتت عن الجواب؛ وذكرت أيضاً زيارتي لها في بيت أهلها وكيف اعترفت لها بحبي وعاهدتها على الزواج، وتلك الأوقات الحلوة التي كنا نقضيها تارة في النقاش وقراءة الكتب، وطوراً في التطلع إلى المستقبل والتمهيد لبناء عش سعادتنا.

تمثلت يوم عودتي إلى دمشق، والاضطهاد الذي أصابني من حكومتها، وفراري من السجن والتجائي إلى مصر بعد الحكم علي وعلى زملائي بالنفي المؤبد، لا لشيء إلا لأننا من دعاة الاستقلال الظامئين إلى الحرية.

ذكرت كل هذا والطريق يمتد أمامي؛ كانت ظلمته تبعث في نفسي رؤيا تلك الأيام التي ودعتها منذ سنين في أرض الوطن وطويتها بين ضلوعي، وبدا لي كأن ماضي يبعث من جديد وينشر فجأة؛ تجسمت أمامي الحوادث كأنما لم يمر عليها ساعات، ذلك العهد الباسم الذي أمضيته وإياها، خيل إلي أن هذا الماضي الماثل القريب قد ضاع مني كله، كأن بيني وبينه برزخاً. . . فجوة الزمن، والحنث بالعهد، تفصل بيننا!!!

ارتدت بي الذكرى فجأة إلى النادي الشرقي، فاستشعرت تلك الذراع الغضة منبسطة فوق كتفي، والصدر المليء ما برح يتموج مختلجاً بين ذراعي؛ جاشت نفسي بالذكرى، وعضضت شفتي ندماً وقلت: ليتني، ليتني ما حنثت باليمين. . . . . . . .

ما كنت أحسبني استعيد مرح الصبا ونشوة الرقص، وقد أرهقني الزواج المبكر بأحمال من الرزانة، وبأثقال من الوقار، وبكل ما تفتعله أكاذيب العادات ونفاق التقاليد.

لم أكن أنشد في الرقص ما ينشده شبان ينتقلون كالنحلة من زهرة إلى زهرة، يرتشفون من ندى زهرات الحياة ما يرتشفون. . . لم أكن كعقلاء العزّاب أو جهالهم أبحث عن فتاة فيها من أوصاف الجمال الجثماني، أو طيش الطباع النزاعة إلى العبث واللهو، أو وفرة المال للزواج، بل كنت مكبوت النفس بحب قديم لم تقو صروف الزمان ومناسباته ولا تطورات الفكر على خنقه؛ لا غرابة في خمود ذلك الحب طوال السنين، بل الغرابة لو لم يستيقظ ويستنهض فيّ دوافع الميول المستقرة في أعماق قلبي بكامل ما فيها من قوى الحياة تهليلاً

<<  <  ج:
ص:  >  >>