فيها أشياء كالنور حيناً والحرارة حيناً؛ فيها صمت لا أدري قراره. . . شممت عطرها القديم الذي طالما ملأت منه رئتي، فاسترحت.
السيارة ماضية بنا تنهب الطريق الممتد بين حقول القطن تظلله غصون الشجر، لم أكن لأستطيع في هذا الحين جمع خواطري لأنها كانت تتناثر كالشرر، إنما كنت أحس كأني انفصلت عن العالم وانقطعت صلتي بالناس، بالحياة وبالواجب أيضاً.
هاهي إلى جانبي، المرأة التي كنت ركزت عليها آمال الشباب، هاهي مبعث الحلم البعيد الذي يصطخب في قرارة تصوراتي، هاهي الومضة الخاطفة التي بإشاعتها تنير أجواء التفاؤل في حياتي، لقد حققت بوجودها جميع صور الخيال وأطياف الأحلام، هاهي بروحها وجسمها إلى جانبي لا يحتجزها عن الالتصاق بي سوى طفلها الجالس في هدوء كأنه يحلم مثلنا.
. . . علام أتجاهل حياتها الواقعة، بل لم أتغافل عن الأمر الواقع الصارخ؟ إن قوانين الحياة وتقاليدها البغيضة تسري علينا سوياً، فلماذا أحاول أن أبعث في نفسها أنانية متمردة شرهة كالتي تعج بها نفسي؟ كلنا أسرى العواطف، عبيد الشهوات، أفلا يليق بنا وقد ولجنا عالم الإنسانية من أبواب الشعر أن نقيم لسيول الشهوة العمياء سدوداً تحول دون اجترافنا؟ أجل، إني لأنزه الحب عن أن يكون مجرد مادة، كما أني أتبرم به متى كان حرماناً صرفاً. يسمو الحب على الحقائق ولكنه لا يستطيع أن ينكرها أو يستهين بها؛ فلماذا تتألم نفسي من وجود الصبي بيننا؟
يسمو الحب على الحقائق، ولكنه متى نما واكتمل وازدهر، وتسنم ذروته العليا فقد يخضع لهذه الحقائق عن رضى لأن سر عظمته في اللين والخضوع!!
لماذا أفزع من وجود الصبي؟ لقد جاءت به لتفصلني عنها، لتضع سداً بيني وبينها، لتنقذ حبي من التردي في مهاوي الواقع والفناء في ظلمة الحقيقة. . . إنها تحبني، أشعر بهذا من رعشات يدها، ورجفات جفنيها، من شفتيها المختلجتين وعينيها المتقدتين شهوة وحسرة، تحبني ولكنها لا تريد الاستسلام، تحبني وتخشى إن هي استسلمت ثم افترقنا على مضض، كما يقضي بذلك الواجب، أن تعذبني الحسرة وتشقيها اللوعة، وأن تترك من شخصها في خيالي صورة بشعة ملوثة تهبط بهذا الحب الرائع القدسي إلى درك الحيوانية الأولى!!