وقالوا: انه مر بسوق البزَّازين فرأى قوماً مجتمعين على باب وكان قد نُقِب، فنظر فيه وقال: أتعلمون من عمل هذا؟ قالوا: لا. قال: فأنا اعلم
فقالوا هذا مجنون يراهم بالليل ولا يتحاشَونه فالْطِفُوا به لعله يخبركم. ثم قالوا: اخبرنا. قال: أنا جائع. فجاءوه بطعام سَنيّ وحلواء، فلما شبع قام فنظر في النقْب وقال: هذا عمل اللصوص. . . . .
وكانت مجلة (الرسالة) في يد (نابغة القرن العشرين)، فصل الكلامَ بها وقال: أنه يقرأ كل مقالاتي وأنه وأنه، وإنها وإنها. قلت: فما استحسنتَ منها؟ قال:(مقالة السيما). . .
فقلت: متى كان آخر عهدك برؤية السيما؟ قال: أمس
قلت: فأنا لم اكتب مقالاً عن السيما، ولكنك أعجبت بما رأيت أمس فتحول ما رأيته حلماً في مقالة
فأعجبه هذا التأويل وقال: بمثل هذا أنا (نابغة القرن العشرين) فاقرأ مقالتك في العيب من قبل أن تكتبها. . . .
قلت: انك تكثر أن تقول عن نفسك (نابغة القرن العشرين) وهذا يحصر نبوغك في قرن بعينه، فلو قطعتَ الكلمة وقلت (نابغة القرن) لصحّ أن تكون نابغة القرن التاسع عشر والثامن عشر وما قبلهما وما بعدهما.
فرأيت به شَدْهَةً كأنه يفكر في جنونه، ثم أفاق وقال: لا. لا. وان هاهنا موضع نظر، فلو رضيت بنابغة القرن فقط، لجاء من يقول إني نابغة قرن خروف. . . .
فقلت في نفسي: حمأةٌ مُدَّتْ بماء. وان هذه الوساوسَ لا تنفك تعرو هذا المسكين ما وجد من يكلمه، والأفكار في ذهنه مجتمعة مختلطةٌ مسترسلةٌ كأنها ثورة من الكلام لا نظام لها، فلأسكت عنه ولأتشاغل بما بين يدي.
وسكتُّ وأعرضت عنه فجعل طائفة يعتريه، وكان السكوت قد سلَّط أفكاره عليه، وكأنها أخذت تصيح به في رأسه كما يصيح غلمانُ الطرق بالمجنون لا يزالون به حتى يُجْردُوه ويفقدوه البقيةَ من صبره وعقله معاً. فغضب (نابغة القرن العشرين) ونقله الغضبُ إلى حالة زَمْهَرَتْ فيها عيناه وكلَحَ وجهه حتى خفتُ أن يثور به الجنون، فأقبلت عليه وتعلّلتُ بسؤاله ألك اخوة؟ ألم ينبغ فيهم نابغة. . .؟