العسكرية البونابارتية التي شغلت أوربا مدى خمسة عشر عاما، وقامت الملوكيات الطاغية القديمة تأتمر وتتحد على قمع المبادئ والحركات التحريرية التي اتسع نطاقها وسرت إلى معظم الأمم الأوربية، واضطرت معظم الحكومات المطلقة أن تنزل عند ضغطها ووعيدها وان تبذل بعض المنح الدستورية؛ وأسفرت هذه الحركة الرجعية التي نظمها ودبرها إسكندري الأول قيصر روسيا عند عقد (المحالفة المقدسة) الشهيرة بين روسيا وبروسيا والنمسا (سنة ١٨١٥)، وكان غرضها الظاهر أن تنظم الدول الثلاث شؤونها الداخلية والخارجية طبق التعاليم المسيحية، وان يحكم الملوك الثلاثة بين شعوبهم بالعدل والمساواة، وان يقوموا بتأييد السلام، ولكن كان غرضها الحقيقي أن تتهاون الملوكيات الثلاث على قمع الحركات التحريرية التي تضطرم بها أمم القارة، وعلى تأييد الحقوق الملوكية المطلقة، وعلى مقاومة الروح الدستورية الحقيقة وإخضاعها لهوى العرش وأرادته؛ وقد انضمت معظم الدول الأوربية الأخرى إلى هذه المحالفة الشهيرة، عدا إنكلترا التي كانت تمثل النزعة الديموقراطية الخصيمة.
ولكن الروح الدستورية كانت قد نفذت إلى الأعماق وحمل تيار الحركة التحريرية أمامه كل شئ، فلم تنجح حركات القمع إلا قدر ما يؤيدها العنف؛ وكان العنف كالعادة يغذي هذه الوثبات الشعبية ويذكيها؛ فلم تلبث عير بعيد حتى عادت إلى الاضطرام؛ ومنذ سنة ١٨٣٠ نرى الثورات الشعبية تتفجر هنا وهنالك في أوربا. ثم كانت سنة ١٨٤٨، التي يمكن أن تسمى بحق عام الثورة الديموقراطية، وفيها سقطت الملوكية في فرنسا أمام إرادة الشعب مرة أخرى، وقامت الجمهورية الفرنسية الثانية؛ وفيها اضطرمت الثورات التحريرية في ألمانيا، وفي معظم أنحاء الإمبراطورية النمسوية، وفي كثير من الدول الإيطالية، واجتاحت أوربا من أقصاها إلى أقصاها ريح تحريرية قوية اهتزت لها كل النظم الطاغية والعروش القديمة المطلقة؛ ولم يلبث أن لاح فجر الديموقراطية الحديثة في الأفق قوياً ساطعاً.
وبلغت الديموقراطية ذروة ظفرها عقب الحرب الكبرى، فانهارت القيصرية الروسية، وانهارت الإمبراطورية النمسوية، والإمبراطورية الألمانية، والسلطنة العثمانية، وقامت جمهوريات فتية، في روسيا وألمانيا والنمسا وبولونيا وتركيا، وفي عدة أخر من الدول الجديدة الناشئة التي خلقتها معاهدة الصلح لأغراض عسكرية وسياسية؛ ثم قامت الجمهورية