للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولم يصدقهما فيما زعما أحد في أوربا غير بستور. على أن صاحبنا كوخ لم يكن ينصت كثيراً إلى ما يقوله الناس ولم يكن يهتم كثيرا بما يرتئيه البحاث كان الأطباء من حوله يرتابون في الذي يراه، ويضحكون منه في الذي يأتيه فلا يصغي لارتيابهم ولا يهتز لضحكهم، حتى حماس بستور لم يُغره يوماً بالوثوب إلى نتائج لم ينضجها البحث ويمحصها التجريب؛ ومن حسن حظ كوخ أنه لم يكن سمع به أحد فلم ترتفع إلى ظهره سواعد الأشياع والمريدين تدفعه قُدُما إلى فتوحات في عالم المكروب عاجله غير ناضجة كان في خمول ذكره رب نفسه ومالك أمرها.

حدث كوخ نفسه قال: (أنا لا أستطيع الآن الاهتداء إلى طريقة اعرف بها أهذه العصيّ والخيوط حيّة ام ميتة، فلأدع هذا مؤقتاً ولأدرس خواصها الأخرى. . .) ولم يلبث أن أوقف دراسته للأغنام المريضة، واتجه يدرس الأغنام الصحيحة، فذهب إلى مذابحها، وزار الجزارين وخالط تجار اللحوم ونادمهم، ورجع بدم كثير من عشرات البهائم السليمة، واسترق من زمن مرضاه ليفرغ لمكرسكوبه، فكان يجلس إليه ساعات متصلة طويلة ينظر منه إلى هذا الدم الكثير الصحيح الذي جمع، فقلقت زوجه من إهماله عيادته.

قال كوخ: (إني لا أجد في دم هذه الحيوانات الصحيحة تلك العصي والخيوط أبداً، وهذا حسن جميل، ولكنه لا يدلني أهذه الأجسام بَشِلاّت أم لا، لا ينبئني أهي حية في استطاعتها النمو والتوالد والتكاثر، أم هي كبعض الجمادات؟)

ولكن كيف السبيل إلى معرفة ذلك؟ كيف السبيل إلى إثبات أن هذه العصي حية؟ أخذ هذا السؤال يملأ نفسه ويملك عليه حسه، وطلبه المسلولون الذين أعيا الأطباء داؤهم، وطلبه الأطفال وقد سدت الدفتريا عليهم منافس الهواء، وطلبته العجائز استشفاء من مرض موهوم غير كائن، ولكن اشتغال صاحبنا بأمر هذه العصي لم يبق منه غير فضلة قليلة لمرضاه، حتى لنسي أن يكتب اسمع على وصفاته لهم. وآنست فيه زوجه الهم والغمّ وكسوف البال. ودعا النجّار يوما وسأله أن يقيم في حجرة العيادة حاجزا خشبيا. وقضى الدماء السوداء وفئران بيضاء بمرح وتلعب في أقفاص اخذ عددها يزيد على الأيام.

وكأني بك تنظر إلى هذا الحاجز الخشبي فتجد على جانب منه مريضة انتظرت طويلاً فأخذت تحط الأرض بنعلها ساماً وقلقاً، وتجد على الجانب الآخر طبيبنا الفاضل يتمتم

<<  <  ج:
ص:  >  >>