إلا مصر وخيرها وأمنها. . . وهل هو واجد في مناصب الدولة منصباً هو آمنأو احسن من ولاية مصر الفياضة بالخير والبركات. . . بلى وإنها لأجدى على صاحبها من الخلافة نفسها. . . فما يغنم الخليفة إلا التعب والجهد في غير طائل. . . وما جزاؤه من ملكه الواسع إلا أن يتوسد الغبراء، فذا رق ومال إلى الدنيا كان نصيبه القتل دون رحمة ولا غفران. ثم أي مكان هو اعز من هذا الركن الأمين الذي لا يصله الجند إلا بمشقة، ولا يقصر في أمر يطلبه الخلفاء. . . الخير الخير إذن في المبادرة إلى جانب معاوية والانضمام لرايته، والحزم الحزم في الإسراع إليه والوقوف في صفه فما في هذا خطر ولا خوف. . . وليزود نفسه من رأيه باستشارة ابنيه محمد وعبد الله. . . فقد عود نفسه أن يدقق الحساب جداً. . . وألا يترك ناحية من نواحي الرأي ولا مذهباً من مذاهب الفكر إلا بحثه ووزنه وزناً دقيقاً؛ وها هو ذا يستمع إلى ابنه عبد الله. . . انه يلومه في ذلك لوماً شديداً، ويرده عن هذا الجشع الذي تحدثهنفسه به:(أيها الشيخ، أن رسول الله قد ذهب وهو عنك راض، ومات أبو بكر وعمر وهما عنك راضيان، فلا تفسد دينك بدنيا يسيرة تصيبها مع معاوية). . . وان محمداً ليسخر من أخيه، ويريد لأبيه مكانا ممتازاًفي عالم السياسة العربية، ويقول:(بادر إلى هذا الأمر فكن فيه رأساً قبل ان تكون ذنباً. . .).
بلى لقد قال محمد الصدق، ومس شغاف قلب أبيه. . وماذا احب إلى ابن العاص من أن يكون رأسا في كل خطوة يقوم بها وألا يأتمر برأي أحد وان يكون حراً، فلا تؤذيه مضايقة مثل عمرو، وان معاوية لقادره قدره ورافعه في درجات الرياسة والامارة، ولا يعدم ابن العاص بفكره أن يتسلط بعد ذلك فيكون صاحب الرأي في الجماعة دون معاوية. . وما عسى تفعل (الحية في أصل الشجرة) إلا ذاك. . نعم وليمض على بركة الله.
وكان معاوية في حيرة من أمره لا يدري ما يفعل؛ كان رأيه قد استقر على حرب علي، ولكنه لم يدر كيف يمضي إلى ذلك، وقد بدأت دعوة علي تتسرب إلى الشام، وانشأ المسلمون يتحدثون في سر سكوت معاوية عن طاعة الخليفة الجديد، وكان هو نفسه يسكتهم ويهدئهم بما له من المكانة في نفوسهم والقدر في أعينهم، ولكنه كان يحس أن لذلك آخراً وانهم منفضون من حوله أن لم ينته في هذا الموقف إلى رأي، وهل هو إلا وال من الولاة عليه أن يطيع، وقد وصلت دعوة علي وتحدث بها البعض ومال إليها البعض الآخر، وبدأ