القلق يساور معاوية، وانتهى به الأمر إلى الاستنجاد بابن العاص، وكان يعرف فيه ميلاً عن بني هاشم وكرها لهم، وكان يقدر أنه لابد كاره لأمر علي فبعث إليه يتعجل حضوره فخف إليه كما رأينا. . وجلس الرجلان يتبادلان الرأي، وربما أحس عمرو من حديث معاوية انه اخطأ في هذه المغامرة التي أقدم عليها، وان هذه (الصفقة الجديدة) ربما كان فيها بعض الخطر. . ورأى أن ما كان قدره من الاعتماد على جند الشام كان فيه كثير من الوهم وسوء التقدير. . وكيف يمكن إقناع هؤلاء بمناهضة الخليفة وحربه وهم مسلمون مؤمنون يرون طاعة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضاً واجباً؟ وكيف يمكن التعويل عليهم، وهذه طاعة علي تكاد تبدو على ألسنتهم؟ ولكنه اطمأن إلى أن لا خطر على مركزه في هذا الأمر الذي انضم إليه. . فإنما هو صاحب الرأي المسموع والكلمة النافذة. . وها هو ذا يستطيع أن يشترط (أخذ مصر كلها أو مصر ومعها غيرها). وقد تقدم فما ينبغي له أن يتأخر. . وقد ألقى يده في يد معاوية ولن يخلص له على بعد ذلك أبدا.
ثم انه مضى يفكر في الأمر تفكيرا طويلا، وقلبه على وجوهه. . حتى هداه الرأي إلى حيلة ربما أفلحت في إقناع جند الشام بعدالة قضية معاوية. . فان هؤلاء الناس لا بد أن يكون قد ساءهم مقتل عثمان، ولا بد أن يكونوا ساخطين على قتلته راغبين في الثأر والاقتصاص منهم؛ وقد ترامى إلى سمع ابن العاص أن عليا يأوي هؤلاء المجرمين ويمد لهم في نعمته ويضعهم من حزبه موضع القادة والرؤساء. . فلم لا يقال للشاميين أن معاوية يقبض يده عن علي لأن عليا يعين قتلة عثمان ويدعهم أحراراًطلقاء، بل لم لا يقال لهم أن مقتل عثمان قد صادف من نفس علي موقعاً طيباً؟. . بل لم لا يقال لهم أن علياً نفسه عمل على هذا القتل وعاون عليه لكي يصير الأمر إليه أخيراً؟. . ولم لا تلتمس البراهين على ذلك، وقد كان علي في المدينة ساعة قتل عثمان، وكان في ميسوره أن يمضي لنجدته فلم يمض. . . وكان الأمر لا يكلفه إلا مشية من داره إلى دار عثمان عطشان يجهده العطش. . . وعلي في داره روِىٌّ مسرور. . . بلى. . . وهذا ابن أبي بكر قاتل عثمان بيده مكرم من علي، أثير عنده، مقام على مصر واليا. . . بلى، والحق ابلج لا تنقصه البينة ولا يعوزه البرهان!