عزماتهم. . . ويرون قتال أعداء علي تعبا لا طائل وراءه، وإن عليا ليلزم جنوده شدة لا يطيقونها، وإنه ليمنيهم بالجنة دون الغنائم والأسلاب؛ وهؤلاء جنود الشام عليهم النعمة ظاهرة والخير وافر: وذلك عدل معاوية، وكياسة عمرو! ثم انظر إلى ميدان صفين: كيف تهم طائفة من أصحاب علي فتكتسح العدو اكتساحا وتكاد تأتي على معاوية، وكيف تتقاعس طائفة أخرى تكاد تفر من الميدان، وكيف يلقى علي مقاومة من أنصاره ومعارضة من قواده. لقد تغيروا. لقد داخل نفوسهم الشك في عدالة قضيته؛ وإنهم ليرون ظل عثمان ملقى على خلافة على ثقيلا رهيبا. بلى وهذا الأشعث يقعد عن المضي، وهذا الأشتر يمضي، حتى تكاد الهزيمة تحيق بمعاوية. ويشتد الأمر بجند الشام وينظر عمرو حواليه، فإذا الأمر مقضي، وإذا الهزيمة قاضية، فينحى على معاوية ويلومه لوما شديدا. لقد بدا له أنه (خسر الصفقة) وأن السوق قد أتت بغير ما كان يقدر. إنه لثائر مغضب يلوم معاوية، فيشتد في لومه، وإنه ليعتبره مسئولا عن الخسارة التي حاقت به، وإنه ليصارحه برأيه وبمكنون سره ويقول له:(يا معاوية: أحرقت قلبي بغصصك؛ ما أرى أننا خالفنا عليا لفضل منا عليه! لا والله، إن هي إلا الدنيا نتكالب عليها، وايم الله لتقطعن لي قطعة من دنياك أو لأنا بذنك).
وإنه ليندم على ما أتى من انضمامه، وقد نسي قدر علي وقوة جنوده؛ ولآن اتضح له الحق فهو يلوم ويندم، ولكن ماذا يجدي، , عن الخطر ليقترب، وإن جنود علي لتكاد تمس جفاء معاوية؛ وإنه ليركب حصانه، ويهيب بعمرو:(الله. . . الله. . . في الحرمات والنساء والبنات: هلم مخبآتك يا أبن العاص فقد هلكنا)، ولكن كيف يسرع أبن العاص إلى مخبآته، ويطوي خيامه ويلوي هاربا، وما بعد؟. . . إنه لينظر بعيدا، وإنه ليرى عليا متعقبا إياهم حتى يقبض عليهم في عقر دارهم. . . كان هذا أمرا يخيف أبن العاص. . . فانظر كيف يستغيث وكيف يحتمي بكتاب الله. . . لقد عرف أن في بعض رجال علي ميلا إلى المهادنة وترك القتال. فرأى الاستفادة منهم. . . ثم أخذ يسأل نفسه قائلا: ترى أي شيء يجله هؤلاء القوم في هذه اللحظة التي تنكروا فيها لكل شيء؛ فتجيبه نفسه: كتاب الله. . . فيجيبها: فلنعتصم منهم بكتاب الله، ولنرفع المصاحف على الرماح؛ فيجب نفسه. . . بلى. . . هو الرأي الصواب. فترفع المصاحف على الأسنة ويراها أصحاب علي، وكأنما كانوا يترقبون فرصة يكفون فيها عن القتال فيرون في هذه حجة كافية، ويكفون ويحتجون بكتاب الله،