نعم تابع العمل وصابره، فلا بد له أن يعلم فوق الذي علمه؛ فأخذ يحقن الخنازير الغينية والأرانب، والشياه أخيراً، بذلك السائل ذي المظهر الطاهر والمخبر القاتل من قطراته العالقة. ولم تكد تدخل هذه الآلاف القليلة من المكروب إلى دم هذه الحيوانات حتى يتضاعف عددها بلايين المرات بسرعة واحدة، وبفظاعة واحدة، في الفأر الصغير والشاة الكبيرة على السواء؛ ولا تمضي ساعات حتى تعج بها أنسجة كانت سليمة تزدحم في الشرايين الصغيرة والأوردة الرفيعة حتى تختنق بها، وحتى يستحيل الدم الأحمر القاني إلى دم رهيب أسود - فتنفق الشياه، وتفنى الخنازير والأرانب.
كان كوخ في الأطباء واحداً من سوادٍ كثير، فلم يكن له اسم، ولم يكن لحاله ذكر، ولكنه فارق هذا السواد بغتة، وارتفع مصعداً إلى صفوف الأمجاد الخالدين من الباحثين؛ وكان كلما مهر في اصطياد المكروب ساءت عنايته بمرضاه بقدر ذلك؛ صاحت أطفالٌ رُضّعٌ في ضياع بعيدة، ولكن الطبيب لم يحضر؛ واحتد الألم في أضراس فلاحين، فاصطبروا على أوجاعهم ساعات مضنيات، ولكن دون جدوى؛ واضطُرّ كوخ أخيراً أن يحول نصيباً من مرضاه على طبيب آخر؛ وقل حظ زوجته من رؤيته وزاد همها، وودت إليه ألا يخرج إلى مرضاه وبه رائحة كيميائياته وحيواناته. أما هو فلم تصله شكوى زوجه، ولا صوت مرضاه، فلو أنهم وهم القريبون منه صاحوا له من وراء النصف الأبعد للقمر ما زادوا ولا نقصوا في أسماعهم إياه - ذلك أن قضية خفية جديدة ساورت رأسه، وملكت لبه، وأسهرته الليالي، قال لنفسه:
هذه البشلات تموت وشيكاً على قطعة الزجاج تحت المجهر، فأنى لها وهي بهذا الضعف أن تنتقل في الطبيعة من حيوان مريض بالجمرة إلى الحيوان جدّ سليم؟
وكان فلاحوا أوربا والبيطريين فيها يؤمنون بخرافات غريبة عن أسباب هذا المرض، وعن تلك القوة الخفية لهذا الوباء، وقد أُصلِت كالسيف فوق رقاب أغنامهم وأبقارهم لا يدرون متى يهبط عليها بالقتل المروع الذريع. أما هذه البشلات الصغيرة الضئيلة التي لا يبلغ طول الواحدة منها جزءاً من ألف من المليمتر، فلن يتصور عاقل أنها سبب هذا المرض الفظيع.
قال البقارون والغنامون لكوخ: (يا سيدنا الدكتور، هب أن مكروباتك الصغيرة تقتل أبقارنا