وأغنامنا، فقل لنا بالله إن كان هذا حقاً، كيف أن القطيع يكون سليماً في مرتع، يأكل ويشرب، ويثب ويلعب، فإذا نقلناه إلى مرتع آخر، كثير العشب، وافر النعمة، امتنع أكله، وذهب لعبه، وتساقطت وحداته، وماتت سريعاً كأنها الذباب).
كان كوخ يعلم أن هذه الوقائع حقاً لا كذب فيها، كان يعلم أن في أوفرن بفرنسا جبالاً خضراء لا تذهب إليها قطعان الأغنام حتى يأخذها الموت واحدة واحدة، أو عشرة عشرة، حتى ومائة مائة، بسبب هذا الداء الأسود داء الجمرة؛ واجتمع الفلاحون حول نيرانهم في ليالي الشتاء الباردة وأخذوا يتهامسون:(إن حقولنا ملعونة مسكونة).
وحار كوخ في أمره - وكيف تقوى هذه البشلات الدقيقة على العيش سنوات عديدة في مثل هذا الشتاء، فوق هذه الحقول، وعلى تلك الجبال؟ كيف يكون هذا؟ وهو حين أخذ شيئاً من طحال فأر وبئ، ونشره على شريحة من الزجاج، وأخذ ينظر إليه من المجهر، وجد المكروب قد عجز عن الحياة، فانبهمت حدوده، وانتشر جرمه، واختفت صورته اختفاء؛ نعم كيف يكون، وهو لّما وضع من بعد هذا على المكروب فوق شريحة الزجاج سائلاً من عين ثور، وهو نعم الغذاء الطيب، لم ينم المكروب، ولم يتكاثر، وهل تتكاثر الأموات؟ ثم هو لما جفف هذا الدم الوبئ وحقنه في فئران، ظلت في أقفاصها تلهو وتمرح ناعمة بالحياة؛ إذن هذه المكروبات ماتت؛ نعم ماتت هذه المكروبات التي كانت تقتل الشاة السمينة والبقرة الضخمة الكبيرة على السواء.
وتسائل كوخ:(هذه المكروبات تموت على زجاجاتي النظيفة اللامعة في يومين اثنين، فكيف استطاعت أن تواصل الحياة على الحقول زماناً طويلاً؟).
وذات يوم وقع بصره على حَدَث غريب تحت مجهره - تحولٍ عجيب أدى به إلى حل الطلسم الذي أعجزه. وجلس كوخ على كرسيه بمعمله الصغير في بروسيا الشرقية وكشف السر المخبوء في حقول فرنسا وجبالها؛ وحكاية ذلك أنه جاء بقطرة من قطراته العالقة، وهي حبيسةٌ في نقرتها الضيقة من شريحة الزجاج، وتركها في مدفأ درجة حرارته كدرجة جسم الفأر، وخلفها هناك أربعاً وعشرين ساعة، فلما عاد قال:(لا بد أن يكون المكروب قد نما في القطرة واستطال خيوطاً طويلة كطول تلك التي تنمو في أجسام الفئران). ونظر في المكرسكوب فوجد غير الذي أمّله. وجد أن الخيوط بعد أن استكملت طولها، أخذت حدودها