من شك في أن هذه البشلات هي سبب هذا الداء) ختم حديثه إلى الأساتذة بهذا القول حتى لكأن تجاربه التي أراها إياهم لم يكن بها كفاية من إقناع؛ وزاد على ما قال بأن أبان لمستمعيه، وقد أخذتهم الدهشة، طريقاً لمكافحة هذا الوباء، طريقاً أرته تجاربه إياه لمحو هذا الداء، قال:(إن كل حيوان يموت بالجمرة يجب إعدام جثته في الحال، فإذا لم يكن في الإمكان حرقها، فلا أقل من دفنها عميقة في الأرض حيث البرودة شديدة فلا تأذن للبشلات أن تستحيل إلى بزور تقاوم شدة الحياة وجبروتها طويلاً. . . . .).
وهكذا علم كوخ الناس في هذه الثلاثة الأيام كيف يبدأون في محاربة المكروب ويدفعون عن أنفسهم أسباب المهالك التي تكمن لهم خفية في الظلام؛ وهكذا بدأ في حمله الأطباء على الإقلاع عن اللعب الهازل بالحبوب والعلق في مدافعه الأدواء، وإحلال العلم والمنطق محل السحر والخرافات.
وقع كوخ بذهابه إلى المدينة برسلاوة في زمرة من رجال أمناء كرماء مخلصين، بذلوا له من صداقتهم ومن عونهم الشيء الكثير، نخص بالذكر منهم الأستاذين كون وكون هايم ذلك لأنهما أولاً لم يسرقا أبحاثه، ولصوص العلم ليسوا أقل عدداً من اللصوص في مناشط الحياة الأخرى. وثانياً لأنهما صّيحا له وهتفا هُتافاً ترددُ أصداؤه في أوربا، حتى لأوجس بستور خيفة على مكانه سيدا لبُحّاث المكروب، وأخذ هذان الرجلان يرسلان الكتاب تلو الكتاب إلى مصلحة الصحة الإمبراطورية ببرلين يعرفانها بأمر هذا الرجل الجديد، مفخرة ألمانيا؛ وصنعا ما صنعاه ليمكناه من ترك عيادته، وهي لا تكسبه غير البلادة، وتيسير الرزق والمال له ليفرغ لدرس المكروب ودفع أدوائه. ومن يدري ماذا يكون من أمر كوخ لو أنه جاء برسلاوة فلم يجد بها غير الزجر والمهانة والصدود، إذن لعاد إلى قريته واكتفى بمعاودة صناعته من جس النبض والنظر في السنة المرضى، ولما كان من أمره الذي كان. إن رجل العلم لا ينجح إلا أن يكون فيه بعض خُلُق الدلالين وأرباب المعارض - وهكذا كان اسبلنزاني الفخم العظيم، وهكذا كان بستور الحساس الصخاب - وإلا أن يكون له من أرباب الجاه وذوي السلطان من يحميه بجاهه، ويدفعه ويزجه في معترك الحياة.