يحلم الأحلام، ولم ينطق عند الغد بصنوف النبوءات، وإنما ظل يضرب فِلَق الخشب في ذيول الفئران فكانت كالسهام سرعة ودقة، وفتح أساتذة البثلجة عيونهم وسعها لما رأوه يتناول تلك البشلات والبزور والمكرسكوب بيد صناع لا تكون لعالم إلا في ستّينه. كان انتصاراً رائعاً روعة الصباح الضاحي.
وكان من بين هؤلاء الأساتذة الأستاذ كون هايم وكان من أمهر علماء أوربا في دراسة الأمراض، فلم يستطيع صبراً على الذي سمع ورأى، وخرج ثائراً من صالة العرض وذهب إلى معمله واندفع على التو إلى حيث يعمل الشباب من مساعديه في أبحاثه، فصاح فيهم:(أبنائي، دعوا ما بأيديكم وانصرفوا فاستمعوا إلى الدكتور كوخ، فإن هذا الرجل كشف كشفاً عظيماً) واسترجع الأستاذ أنفاسه.
قال الطلاب:(ولكن يا سيدنا الأستاذ منْ كوخ هذا فما لنا به من علم؟).
قال الأستاذ:(مهما يكن من أمره، فالكشف الذي أتاه عظيم، كشفٌ غاية في الدقة، غايةٌ في البساطة، غايةٌ في العجب. وكوخ هذا ليس أستاذاً. . . ولم يتعلم قط كيف يجري الأبحاث. . . وإنما تعلمه من ذات نفسه، وصنع كل ما صنع بمجهوده وحده).
قال الطلاب:(ولكن ما هذا الكشف يا سيدنا الأستاذ؟).
قال الأستاذ:(أقول لكم اذهبوا، واذهبوا جميعاً، وانظروا بأعينكم، واسمعوا بآذانكم، فإنه عَلِم الله أخطر كشف في عالم المكروب. . . كشف نتضاءل جميعاً إلى جانبه. . . .
اذهبوا. اذهبوا. .)
ولم يتم الأستاذ قوله إلى التلاميذ حتى كانوا قد خرجوا من الباب واختفوا عن بصره فلم يسمعوا آخر نبراته، وكان من بينهم بول إرليس
قال بستور قبل هذا اليوم بسبع سنوات:(إن الإنسان في مقدوره محو الأمراض المعدية من على ظهر البسيطة)؛ وعندئذ قال أحكم أطباء ذلك العصر:(إنه رجل مأفون)؛ ولكن في هذه الليلة خطا كوخ بالدنيا أول خطوة في تأويل الحلم الذي أرتاه بستور. وختم كوخ حديثه إلى الأساتذة الأمجاد قال: (إن أنسجة الحيوانات التي تموت بداء الجمرة لا تعدي بهذا الداء إلا إذا هي حملت بشلاته أو بزور هذه البشلات، سواء أكانت هذه الأنسجة صالحة أو فاسدة، متعفنة أو جفت أو مضى عليها عام. وفي وجه هذه الحقيقة يجب أن يزول كل ظلّ