وأثبت ذلك إثباتاً جميلاً بأن وضع أطحلة وبيئة في ثلاجة، ثم عاد إليها بعد أيام فأخذ منها وحقن الفئران، فلم يصيبها سوء، فكأنما حقن فيها لحماً طازجاً سليماً.
وكان العام عام ١٨٧٦، وكان كوخ قد بلغ الرابعة والثلاثين فخرج لأول مرة من عُشّه، من قرية فُلِشْتَين ليخبر الدنيا في شئ من الفأفأة، أنه قد ثبت ثبوتاً قاطعاً بعد طول الشك أن المكروبات أسباب الأدواء. لبس كوخ أفخر ثيابه، ووضع على عينيه نظاراته وقد تأطر الذهب حولها، وحزم مجهره، وعدداً من القطرات العالقة في محابسها من الزجاج وقد تنغشت بمكروب الجمرة القاتل، وأضاف إلى متاعه قفصاً أخذ يهتز ببضع عشرات من الفئران البيض الصحيحة، وركب القطار ووجهته بلدة برسلاوة ليعرض فيها مكروب الجمرة الذي كشفه، وليبين للأشهاد كيف يقتل هذا المكروب فئرانه، وكيف أنه يستحيل تلك الاستحالة الغريبة فيصير عقوداً كالُّسبَح - وأراد بخاصة أن يطلع الأستاذ كُون على كل هذا، وهو أستاذ النبات بجامعة برسلاوة، وكان يكتب أحياناً إلى كوخ مشجعاً حامداً.
أعجب الأستاذ كون بتجارب كوخ التي أجراها وحيداً لا يسمع به أحد، وعلم أنها ذات خطر كبير لم يفطن له كوخ نفسه، وتصور في ابتسام وخبث ما يكون من أثرها في نفوس جهابذة الجامعة وأعلامها، وهم ما هم من رفعة القدر وشيوع الذكر، وكوخ هو ما هو من الضعة والخمول، فبعث إليهم يدعوهم لحضور الليلة الأولى للمعرض الذي يقيمه طبيب القرية الصغير.
ولبوا الدعوة، نعم لبوها ليستمعوا إلى هذا الذي جاء من أقصى الريف يحدثهم عن العلم؛ ولعلهم جاءوا رعاية لحرمة الأستاذ الشيخ كون. ولقيهم كوخ، ولم يحاضرهم في الذي أتى له، فلم يكن قط ممن يحسن صناعة الكلام. انعقد لسانه، ولكن يده انطلقت ثلاثة أيام ولياليها ترى هؤلاء السفسطائيين ما كان من أبحاثه طوال تلك السنين، وما كان فيها من تلمس في الظلام، وتحسس في دياجير المجهول، وما كان فيها من عثرات تبعتها نهضات، ومن نهضات تلتها عثرات؛ فلم ينزل أحد من كبريائه، ولم يهدئ من ادعائه، نزول هؤلاء الجهابذة وهدوءهم، وقد كانوا في كثرتهم يستمعون لرجلنا القليل، وقد كانوا طامنوا أنفسهم على التسامح، وألا يأخذوا عليه المآخذ، بل يدعونه يرسل القول إرسالاً، فما عند مثله يطلب الجدل، ولا لمن هم في منزلته يثار النقاش. ولم يجادل كوخ قط ولم يتفيهق قط، ولم