على بعضه النقاء؛ وهذا قلب أسخمُ لم يبق أثر لطبيعته؛ وهذا قلب كبير؛ وهذا قلب صغير.
ووقفتُ أرنو إلى ذلك الحشد الحافل وأستمتع بما فيه من مشاهد غريبة كانت محجوبة عني أو كنت محجوباً عنها؛ وأخذ كلُّ قلب يتطلع إلى القلوب حوله، ويستمتع استمتاعي وكأنه يحس ما أحسه من دهَش يصحبه فرح، ومن رهَب تصحبه لذة.
ورأيت على بعد غير سحيق من مكاني قلباً تقلص أديمُه، وشاه مظهرُه؛ فدلَّنا على باطن غاسق كالليل؛ والقلوب كلها نافرة منه صادفة عنه، كأنه قتاد يشوك من يقربه، أو مخلوق وحشي يلتهم من يلمسه. وهو في مكانه يوزع عليها نظرات ممتعضة ساخطة ملأى بالتمرد والتوعد. فسألتُ:(ما لهذا القلب لا يجد منا صاحباً ولا نجد فيه أهلاً للصحبة؟) فقالوا: هذا قلب رجل لا يعيش إلا ليبثَّ الفساد بين قلوب عارفيه، ولا يستريح حتى يشي بين صديقين متفقين، أو يعكر ما بين حبيبين ناعمين، أو يسيء إلى أحد ما. فتراه يبتسم لهذا، ويداعب ذاك، ويوسوس إلى ذلك؛ حاسباً أن في ابتسامته ودعابته وريائه ستاراً لحقده وخبثه وخسته؛ ولكن هيهات. . فكلنا يعرف ما في جوفه، وكلنا يحتقره وينبذه ويلعنه، وكلنا يود الآن لو يسحقه فيريح الوجود من وجوده.
ورأيت في ناحية أخرى قلباً شفَّ لونه، وأضاءت سحنته، فدلّتنا على دخيلة بيضاء كالشمس، والقلوب كلها - إلا ذلك القلب الداكن وأمثاله - متهافتة عليه، متوددة إليه، تصافحه وتحييه؛ فيصافحها ويلاقيها بتحيات زكيات ملأى بالبر والقناعة - فسألت:(ما لهذا القلب لا يجد منا قالياً ولا نجد منه داعياً للقلى؟) فقالوا: (هذا قلب رجل تقي كريم يعرف الله ويخشاه، نصب نفسه لهداية الناس، وقضى أيامه يجاهد الرذيلة ليحي الفضيلة، ويكره الشر، ويحب الخير. فطالما سعى ليوفق بين صديقين مختلفين، أو يصلح ما بين حبيبين تاعسين، أو يحسن إلى أحدٍ ما؛ فتراه يرشد هذا، ويعلم ذاك، وينتزع الغواية من ذلك، صادقاً في كل ما قال وكل ما فعل، مصلحاً أينما حل. فكلنا يعرف فضله ويقدره ويحترمه ويود لو يرفعه فيجعله في السماء.
ولفتَ بصري قلبٌ غلا دمه، وتصاعد البخار من فتحاته، وكاد يندلع اللهب من جنباته؛ حتى خلتُه تنُّوراً تنصهر فيه جدرانه جزءاً فجزءاً، ويشتد أزيزه كلما استعر جوفه. يروح ويغدو بين القلوب هائجاً كالمشرّد، حائراً كالنصال، لا تفتر قواه ولا ينقطع خفوقه. فتساءلنا