عما به فوجدناه قلب محب فارقه حبيبه فبرّح به الشوق، وأضناه الألم؛ فهو ظمآن لهفان يبحث عنه بيننا علّه يلقاه فينقع اللقاء غلته، ويبرد لهفته. فقلت: آه!! ما أعظم سلطان الحب. . آمنت بأن في الحياة قلوباً تحار حيرتي وتكابد ما أكابد.
وكان بين القلوب قلبٌ خالٍ كالبيضة إذا أفرخت، سافر كالمرأة إذا تهتكت، باهت كالشمس إذا تنقبتْ بالسحاب. فكان أشبه شيء بالإسفنجة؛ وأعجبني منظره الفاتر الخالي من كل قرائن الحياة، لأنه شاذ بفتوره وخلوه منها، وأخذتُ أراقبه مليا لأقف على سره لو كان لمثل هذا القلب سر؛ فوجدته إمعة يظل ساكنا كالنائم فلا يتحرك حتى يحركه غيره، ولا يتوجه حتى يوجهه غيره، ولا يعمل إلا ما يمليه عليه غيره.
يدنو منه قلب من تلك القلوب السوداء هامساً موسوسا فلا يلبث حتى يسودّ ويتشكل بشكله، ثم يدنو منه قلب من تلك القلوب البيضاء الناصعة محدثاً مبشراً، فلا يلبث حتى يبيضّ ويتشكل بشكله، وهكذا هو في كل أحواله مقود لا إرادة له ولا صفة.
فسألتُ عنه فقيل لي: هذا قلب شاب ساذج أبله مغرور بنفسه، مخدوع بغروره، لم ينكبه الدهر، ولم تكرثه العوادي؛ فعاش كما تراه سليماً من الشر ومن الخير، بعيداً عن الحزن وعن الفرح، وحسب أنه عاش كذلك برغبته وقدرته، وأنه استطاع أن يهزأ بالأحداث لأنه فوق متناولها؛ ولم يعرف أن الله خلقه ضعيفاً فأنكره الدهر، وهزأت بوجوده الأحداث.
ووقع بصري على قلب تراه واقفاً فلا تحسبه واقفاً لدأبه على الدق والتوثب، ولا تفهم من خفقانه المتواصل معنى خفقان القلوب. وإنما تفهم معنى الجبروت والصولة والعربدة!! ينظر إلينا شزرا ويتطلع إلى محيطنا باستخفاف؛ ثم يصرف عنا بصره ويتطلع إلى أبعد من محيطنا باستخفاف؛ كأنه لا يشعر بنا وكأنه يعتبر الكون أضيق من أن يَسَع قوته وعظمته، فلا يروح ولا يغدو إلا في تيه وخيلاء، ولا يقف إلا وقفة المتمرد المتحفز، وهو مع هذا أبكم، أصم، أعمى، كافر، لا يؤمن بالرحمة، قاس لا يعرف الآلام؛ فهو أشبه شئ بكرة من الحديد.
قلت: قلب من هذا القلب القوي المتكبر؟ قالوا: قلب رجل شجاع جبار لا يهاب الصعاب، ولا يرضى الاستكانة، ولا يعرف التسامح، مفطور على الكبر والعظمة واستصغار الكبائر؛ واستضعاف الأقوياء، واستعباد الضعفاء. فهو يعتقد أنه مخلوق للغلبة والانتصار.