ونظرت على يميني فرأيت قلباً استحق مني أن أطيل النظر إليه لما هو فيه من هم وكآبة، وقطعت فترة طويلة من الوقت شاخصاً إليه، متأملاً مشفقاً وأنا أحس أنه بائس وأن بيني وبينه صلة من البؤس مهما يكن بؤسه ثم ملت إليه وسألته: ماذا بك أيها القلب الحزين الباكي، ومالي أراك ساكناً ساكناً. . . تبدو في سكونك كاليائس المقشعر من يأسه، وكأني بك تستكثر على نفسك أن تعيش لأنك برم بالعيش!! إنك منا ولكنك غريب عنا؛ لا تخالطنا كما نتخالط ولا تحادثنا كما نتحادث؛ فما رأيتك منذ رأيتك إلا زافراً تكبت الزفرات، أو مستعبراً تخبأ العبرات، وأحسب أنك نكبتَ في حب فعشت في ذكرياته، وأن تلك الذكريات التي وصلت ما بينك وبين الماضي قطعت ما بينك وبين الحاضر: فماذا بك، وقلب من أنت؟
فانتفخ، ثم صعدت من فوهته زفرة ملتهبة، ثم صمت قليلاً، ثم رنا إليّ طويلاً، ثم قال: دعني لمأساتي فاللهب لا يحرق إلا من ألقي فيه.
قلت: ولكني أريد أن أعرف مأساتك؛ فعسى أن أعينك أو أواسيك أو أتوجع لك.
فصعدت من فوهته زفرة أخرى وقال: أواه. . . هذا شعور جديد في الحياة أو جديد في حياتي أنا فقط، وهذه كلمات لم أسمع مثلها منذ حين. فيالك من قلب طيب!
إن مأساتي هي أنني بحياتي مأساة في الحياة!! لقد كنت محباً واليوم قد مات الحب، بل أنا محب؛ كنت هانئاً، واليوم قد مات الهناء. . . بالأمس كنت قلب فتاة عذراء مؤمنة، واليوم أنا قلب امرأة متخالعة متماجنة. . . امرأة مومس أقدمت على الدعارة مكرهة، ثم مستسلمة، ثم راضية،. . . امرأة ساقطة تبيع عرضها في سوق الفجور (الرسمي) كل يوم لكل من يدفع الثمن. . .
مسكينة هذه البائسة المجروحة التي تحملني بين حناياها بائساً مجروحاً!! إنها تحاول كثيراً أن تسكتني وتخفيني، ولو استطاعت لقطعت ما بيني وبينها من شؤون وصلات، لتخلو لشؤون وصلات ذلك العالم الداعر الكافر الذي تعيش فيه بين ذبّاحي الإنسانية وهدّامي البشرية، وأنا في صدرها ألتاع وأتألم وأبكي وليست لي دموع إلا الدماء أستوردها من بدنها فيهزل قوامها، وهزال قوامها يذبل شبابها، وذبول شبابها يضيع جمالها، وجمالها هو حياتها الفانية التي لا خير فيها.