للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وعندي أن حركة أبي ذر الاشتراكية تمت بنسب قوي إلى حركة مزدك الشيوعي الذي ظهر بفارس على عهد قباذ وكسرى أنو شروان، والذي كاد يقلب نظام المجتمع الفارسي رأسا على عقب لولا عزم أنوشروان وحزمه. فإذا عرفنا أن اليمن خضعت لفارس قبيل الإسلام وان يهوديا من أهل صنعاء يعرف بابن السوداء ادعى الإسلام في خلافة عثمان وجعل يطوف الأمصار الإسلامية داعيا إلى الثورة، وانه هو الذي حرك أبا ذر لما أنس فيه من الميول الاشتراكية، إذا عرفنا ذلك كله فقد وضحت الصلة بين الحركة الشيوعية الفارسية القديمة وبين الحركة الاشتراكية التي أوشكت أن تقع في الدولة الإسلامية على عهد ثالث الخلفاء الراشدين.

لبث أبو ذر في منفاه نحو ثلاث سنين يعاني ألم الوحشة وكبر السن وخيبة الأمل فلما أدركه الموت في سنة ٣٢ هـ كانت وفاته مؤثرة ودالة على شدة ثباته على مبدأه حتى النهاية، وعلى أنه حقا قد مشي وحده، ومات وحده، يروي ابن سعد في طبقاته أنه عندما حضرت الوفاة أبا ذر حارت امرأته في أمرها لتوحدها في تلك الفلاة (فكانت تشد إلى كثيب تقوم عليه فتنظر ثم ترجع إليه فتمرضه، ثم ترجع إلى الكثيب، فبينما هي كذلك إذا هي بنفر تحذ بهم رواحلهم كأنهم الرخم على رحالهم، فألاحت بثوبها، فاقبلوا حتى وقفوا عليها، قالوا ما لك؟ قالت امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه. قالوا ومن هو؟ قالت أبا ذر. ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، ووضعوا السياط في نحورها، يستبقون إليه حتى جاءوه. فقال لهم. . . . . . . . . ولو كان لي ثوب يسعني كفناً لم أكفن إلا في ثوب هو لي، أو لامرأتي ثوب يسعني لم أكفن إلا في ثوبها، فأنشدكم الله والإسلام الا يكفنني رجل منكم كان أميرا أو عريفا أو نقيبا أو بريدا. فكل القوم قد كان قارف شيئا من ذلك إلا فتى من الأنصار قال أنا أكفنك فإني لم اصب مما ذكرت شيئا، أكفنك في ردائي هذا الذي على وفي ثوبين في عيبتي من غزل أمي حاكتهما لي. قال أنت فكفني. . . فكان ذلك الفتى الأنصاري هو الذي تولى تجهيزه ثم دفنوه جميعا.

وهكذا انطفأ سراج هذه الشخصية الفذة العجيبة. أنها لا شك من تلك الشخصيات التي يقدمها الزمن عادة بين أيدي الأحداث الخطيرة إنذارا للناس وإقامة للحجة عليهم إذا لج بهم الغرور فلم يرعوا ولم يزدجروا.

<<  <  ج:
ص:  >  >>