وطائفة أخرى من هؤلاء المتأدبين آمنت عن تلقين، أو تقليد، أن في الأدب القديم ثروة مخبوءة، ومنجماً حقيقياً بالجهد وحسن الاستغلال؛ فراحت هذه الطائفة - طمعاً في الثورة وحسن الاستغلال وحسب! تحاول أن تعثر بشيء تستسيغه، أو تجد لَقًي تسعى إليه، ولكنها لم تأخذ الأهبة، ولم تهيئ الأسباب، وحسبت أن في أظفارها اللينة غَناءً عن الفئوس والمساحي في الحفر والتنقيب؛ قلما آبت أوبتها الخاسرة، عادت تعيب ما كانت تباهي به، وتنكر ما كانت تعترف؛ ولو أنصفت لعابت الجهد الكليل والعزم الخائر
وقد جلست مرة إلى آنسة متأدبة تشتغل بشؤون التعليم، فلقيتني متعبة مكدودة وهي تقول:(حسبي منك يا صاحبي ومن أدبك القديم!) قلت: (ماذا يا آنسة؟) قلت: (هذا (نهاية الأرب) بين يديّ منذ أيام ثلاثة، أحاول أن أجد فيه شيئاً يفيد تلميذاتي فأترجمه لهن في كتاب المطالعة الذي أشتغل بتأليفه فما وجدْت. . .!)
وكان هذا أول عهد صاحبتي بالأدب القديم، وقد لجأت إليه أوّل ما تلجأ، لتجد بغيتها تحت عينيها؛ فلما استيأست ونال منها الجهد، ورمت الكتاب وهي تسب الأدب القديم، وتعيب الأدب القديم!
وإنما يتأنى الفوز بمثل ذلك لمن أدمن الاطلاع والنظر، وداوم البحث والاستقرار، فيقرأ أولاً ليدرس ويلذّ نفسه، حتى إذا بلغ من ذلك ما بلغ، جاءته الثمرة من حيث لا يطلبها، ووجد الفائدة تحت عينيه تدلّ على موضعها وهؤلاء الباحثون جميعا لم يؤدوا إلينا نتائج ما بحثوا مستوفاةً ناضجة لأنهم أرادوا أن يبلغوا هذه النتائج أوّل ما قرءوا؛ إنما كانت القراءة أولا؛ ثم شعاع الفكرة، ثم عناصر البحث، ثم هذه الثمرات التي نقرؤها فتعجب بها فنثني على ما جاهدوا وظفروا؛ ولو أنهم أرادوا موضوع البحث قبل أن يقرأوا، لكان غاية جهدهم أن يخترعوا عناوين البحوث. . .!
وهذا أديب آخر يظفر بالشهرة والجاه عند دعاة الجديد، ويحسبونه واحداً منهم، لأنه يكتب بأسلوبهم وعلى طريقتهم، لقيته مرة فحدّثته وحدّثني، فقال لي: (دعهم يقولون عني، وينسبون إلي وينتسبون؛ ولكني لا أكذبك، فكم تمنيّت أن يكون حظّي من الأدب القديم أكثر مما عندي، وسأبلغ ذاك، وسيعلم أصدقائي يومئذ أنني لم أكن في المجددين لأني أنكر