الكلمة الأخرى لمعنى ضعف العقل؛ وضعف العقل هو اللفظ الآخر لمعنى جنوني، وقد أعلمتكم ما أكره من الكلام.
قلت: لا، إن النسيان لا يكون منك نسيانا بمعناه في المجانين، بل بمعناه فيك أنت من تواثب الأفكار النابغة وتزاحمها في تواردها على العقل. فإذا تواثبت وتزاحمت كان أمرها إلى أن ينسى بعضه بعضا فلا ينطلق منها إلا القوي النابغ حق نبوغه، فيجيء كالمنقطع مما قبله، فيحسب ذلك نسيانا وما هو به. وقد تصطلح الأفكار في هذه المعركة الذهنية إذا كان النابغة مسرورا محبورا يرقص طربا. . . فيكون أمرها إلى أن تجيء كلها معا على اختلاف معانيها وتناقضها؛ فحسب ذلك ضربا من الذهول عند من يجهل العلة النبوغية؛ وعذره جهل هذه العلة وهي في دلالة العقل ليست نسيانا ولا ذهولا.
قال: فأعلمني كيف نسيان المجانين فقد خفي علي أن أدرك هذا الأمر العجيب فيهم، ولست أدري كيف يفوتهم ما استدنى لهم من الفكر بعد أن يكون قد استقر وحصل في عقولهم؟
قلت: لا يكون النسيان تهمة بالجنون إلا في أحوال ثلاث جاءت بكلها الرواية الصحيحة المحفوظة:
فأما الأولى فما يروى عن رجل كان سريا غنيا وعمر حتى أدركه الخرف؛ فجاء كاتبه يوما يستعينه على تجهيز أمه وقد ماتت فدفع إلى غلام له دنانير يشتري بها كفنا ودنانير أخرى يتصدق بها على القبر؛ ثم قال لغلام آخر: إمض إلى صاحبنا وغاسل موتانا فلان فادعه يغسلها. قال الكاتب: فاستحييت منه وقلت يا سيدي ابعث خلف فلانة وهي جارة لنا تغلسها. قال يا فلاناً تدع عقلك في حزن ولا فرح. كيف ندخل عليها من لا نعرفه؟ قال الكاتب: نعم تأذنبذلك. قال لا والله ما يغسلها إلا فلان.
فضاق الكاتب بهذا الحمق وقال: يا سيدي كيف يغسل رجل امرأة؟
قال: وإنما أمك امرأة.،.؟ والله لقد أنسيت
وأما الحالة الثانية فما يروى عن رجل كان نائما في ليلة باردة فخرجت يده من الفراش فبردت، فأدناها إلى جسده وهو نائم فأحس ردها فأيقظته، فانتبه فزعا فقبض عليها بيده الأخرى وصاح: اللصوص. اللصوص. . . هذا اللص قد قبضت عليه أدركوني لئلا تكون في يده حديدة يضربني بها، فجاءوا بالسراج فوجدوه قابضا بيده على يده وقد نسى أنها يده.