بل إننا لا نكاد نميل عن هذا الرأي في سبب تلقينه بالمتني حتى تقوم الحجة، والحجة القاطعة على خلافه. وأما أقوال خصومه في ذلك فمرجد ادكار قوله انه سمام العدا وغيظ الحسود تضعف وتضمحل حتى لا يبقى لها اعتبار ما.
وأما عقيدته فهي مما كثر كلام الناس فيه؛ ولسوء حظ المتنبي لم يتناولها إلا منتقد، وليس هناك معتقد فيما نعلم تولي رد ما رمى به من الزبغ والإلحاد. فنحن نبين ما يعتمد إليه متهموه فيها ونعقب عليه بما يلوح لنا من ذلك صحيحا أو باطلا. غير أنه لابد من القول أن مثل المتنبي في أدبه وشعره وروحه الفلسفية لا يطمع منه أن يكون متدينا خالصا إلى حد التبتل والانقطاع للعابدة ومحاسبة نفسه على الخطرات وحبس لسانه عن فضول الكلام، فان التدين بهذه الصفة مما لا يكاد يفهمه إخوانه من الشعراء وأهل الأدب على وجه العموم. وقديما مثلوا برقة إيمان الأدباء، فكيف نريد منالمتنبي أن يتستر على جمهورهم ويقدم لنا من نفسه (أويسا) في ثوب شاعر، أو شاعار في ثوب (أويس)؟ ولئن قال علي بن حمزة عن المتنبي إنه ما صام ولا صلى ولا قرأ القرآن فلقد قال عنه إنه ما كذب ولا زنا ولا لاط. وهذه إن لم تقم بتلك فان تلك لا اعتداد بها مع هذه. وهل كان الشعراء الذين لم يتنزهوا عن الكذب والزنا واللواط يصمون ويصلون ويقرأون القرآن؟
وبهذا تعلم أن عدوان الخصومة على المتنبي قد ستر من محاسنه ما لو ظهر لكان له في النفوس مكان أسمى مما له فيها الآن ولأقص على سمعك بعد هذه المقدمة بعض الأبيات التي يزن بسبها بضعف العقيدة. قال يمدح بدر بن عمار:
تَتَقاَصرُ الأفهامُ عن إدراكه ... مِثُل الذي الأفلاكُ فيه والدُّنى
فقالوا: لقد أفرط جدا لأنه شبه ممدوحة بالحق سبحانه وتعالى، لأن الذي فيه الأفلاك والدنى هو علمه عز وجل. ونقول إن هذا تعسف ظاهر، فمن الذي نقل عنه أنه يريد ما ذكرتم؟ وماذا حسن في بلاغتكم؟ التعبير عن علم الله بالذي الأفلاك فيه والدنى حتى رجحتموه على أن يكون المراد به هذا الفضاء الواسع الذي يحتوي الأفلاك والدنى حقيقة ممتدا وراء الآفاق التي تتقاصر عن إدراكها العقول؟