للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وبدأ كوخ عمله، وكان لا يعمل إلا على خطه يرسمها، وكانت خططه قاسية لا صلةهلا بعاطفة بني الانسان، ولا تمت بسبب إلى الحنان القلوب. وأجرها ببرود قلب لو أطلعت عليه في تقاريره عنها لأقشعر بدنك منها. وحصل على مادة سله الأولى من عامل يفعل في الأرض؛ وكان رجلا قوي البنية، مفتول العضل شديداً، وكان عمره ستة وثلاثين عاماً، وكان منذ ثلاثة أسابيع في صحة هي الغاية مما يرجوه إنسان، فلم يلبث أن جاءته سعلة باغتة، اخترقت صدره الآم فاجئه، نفذ منه نفوذ السهام. وأخذ جسمه في الهزال السريع حتى أصبح كأنه الشمعة احترقت فأخذت تسيح. ودخل المستشفى ولم تظله سقفه أربعة أيام حتى صعدت روحه إلى السماء، وتخلف جسمه حيث هو من سريره، وقد عمه الدرن وتنقط كل عضو فيه بتلك الحبيبات الغبراء الصفراء كأنها الفلفل بعثره مبعثر فيها.

بدأ الكوخ عمله في هذه المادة الخطيرة وحيداُ، فمساعداه كانا قد افترقا عنه، أما لفلار فأخذ يتقفى مكروب الدفتريا، وأما جفكي فكانا ينقب عن مكروب التيفود. بدأ كوخ العمل وحده، فجمع الدرن الأصفر من جثة العامل المنكود بين مشرطين أحماهما في النار، ثم سحق الدرن، ثم حقن سحيقة بلطف في عيون طائفة من الأرانب، وحقن منه تحت جلود طائفة أخرى من الخنازير الغينية، ووضع الأرانب والخنازير في أقفاص نظيفة، وأخذ يعني بها ويلاطفها ويداعبها مداعبة الأم الرؤوم؛ وبينا هو ينتظر انبعاث السل فيها ملأ وقته بالنظر بأقوى مجهر في الأنسجة المريضة التي خلفها العامل المسكين.

نظر ثم نظر، ثم داوم النظر أياما بمجهر يكبر الأشياء مئات المرات، فلم يكشف بصره شيئاً إلا الحطام الذي تخلف من كبد تهدمت أورئةتخربت. قال كوخ: (إن يكن للسل مكروب فلا بد أنه يداورني ويغالبني حتى يفلت من عيني فلن أستطيع بعد الآن رؤية وهو حيث هو من الأنسجة بصبغة شديدة، فلعله يتراءى من بعد ذلك فيها. . .)

ومضى اليوم تلو اليوم، وكوخ قائم قاعد في صبغ الدرن الذي جمعه، يصبغه بالأسمر والأحمر، وبكل لون من ألوان الطيف استطاعه. كان ينشره على شريحة من الزجاج نظيفة، ثم يغمرها بما عليها فيمحلول صبغة قوية زرقاء، ويدعها الساعات فيها، ثم يعود إلى شريحة ثانية ويصنع بها ما صنع بالأولى، فيغمرها في صبغة أخرى، ثم يعاود ثالثة ورابعة، وكلما مست يداه شيئاً مستراباً غمسها في محلول مطهر من السليماني حتى تقشف

<<  <  ج:
ص:  >  >>