كنت في حياتها في فكر ممض، وقلق مستديم، وليس من الإنصاف لنفسك ولا لأولادك أن تظل هكذا شقيا بمماتها. .
فما استأذن حديثي على سمعه حتى ظل هنيهة مطرقاً مفكراً، وكأن أطياف الماضي تذهب وتجيء في رأسه، فلا يستطيع لها دفعاً، وكأن لوحة خيال تعرض حوادث حياته مشهداً مشهداً، وبعد أن تنبه إلي قال:
لست أنسى طول حياتي رزانة عقلها، واتزان كلامها، وجميل وفائها؛ وقصدها في الأمور كلها، حتى لقد حسبت أن الله مازها بذلك من دون النساء جميعا؛ وأن شمائل بنات حواء اجتمعت لديها ثم صارت وقفا عليها. أرأيت إلى قطرات من المطر تتحلب من أفواه السحاب، ثم يؤلف الله منها ماء رويا يحظى به فرد واحد من بني الإنسان؟ تلك هي فضائلها. فأن محي البر والمعروف والوفاء من نفوس الناس جميعاً فلن تبرح ذهني ذكراها، وهكذا تمر الأيام وروحها ماثلة أمامي، ومآثرها مشرقة إشراق الشمس؛ فهي باقية في معاني الكمال الإنساني، باقية في هؤلاء الصبية كلما خطروا أمام عيني، فهم بضعة منها، وأمثالها العزيزة على نفسي. . . . . . .
كان داء قلبها مبعث آلامها، فما تبرّمت لحظة في القيام بما تفرضه شركة الحياة بيني وبينها، ولأني أعلم أن صخرة عاتية تنتظرني بعد أن أنفض يديّ من تراب قبرها، فتحطم آمالي تحطيما، وتفرق أجزاء نفسي شعاعاً
وكم كنت أود إن لم يكتب الله لها السلامة أن تعيش هكذا في سريرها تنعم برؤية أولادها، وأنا كل يوم أزجي إليها كواذب الآمال في برئها، وأزور مع الطبيب في الطريق كلاماً نقوله عند لقائها، والطبيب يشفق علي ويقول: حسبك فقد أبليت، والطب ألقى سلاحه معترفاً بالعجز عند باب حجرتها؛ وأنا أجيبه: لا عليك أن تكرر الزيارة، وأن تذرع الأرض جيئة وذهوباً، وأجرك موفور، وعذرك في عدم الشفاء مذكور، رجاء أن تدخل شيئاً من برد الطمأنينة على قلبها
وقد والله كانت راضية بالقدر خيره وشره، وما ذاقت طعم النوم أشهراً إلا مثل حسو الطير ماء الثِّماد، وكانت لا تطيب نفسها أن أسهر بجانبها حتى أقوى على أسباب العيش طول النهار؛ فإذا نزلت عند رأيها انتابني الفزع في وهن الليل، فأراها جالسة مفتوحة العينين