للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نعمت بها مدة غيبتي عنها، فسألت في شأن هذه الرسائل فاعتذرت لي بأنها شاءت أن أفرغ لعملي، وحسبي جهود الامتحان من آلام التذكر، فحاطت الرسائل بما يخفف عني، ويحي ميت الآمال من نفسي، فأكبرت هذه المروءة وذلك العقل الكبير من حيةٍ ميتةٍ تنتظر أياما أو ساعات لتودع الحياة الدنيا وقالت لي: إنها ابتهلت إلى الله ألا يحل بها ريب المنون حتى أعود من سفري، وهاهي ذي مشيئة الله كانت رحيمة بها كريمة عليها، وأعلمتني إن دلائل الموت تقترب منها ففاضت شئوني. أما هي فكانت الثقة بالله تملأ جوانب نفسها والتسليم للمقادير ما يلهج به لسانها في كل حين فكانت هادئة رزينة مكتملة العقل كعادتها

ثم عدت إلى المنزل في الظهيرة وقارورة الدواء الأخيرة في يدي فنظرت إليها كما ينظر الموتور إلى واتره فأجفلت منها وكأنها نذير الموت جاء يعجلها فقالت: في هذه الزجاجة بقية عمري فأبعدوها عني ولا تفضوا ختامها: ارحموني فقد تمزق جسمي بالحقن فلم يسلم جزء فيه من طعناتها، وتقطعت أحشائي بالعقاقير وأنا صابرة، فكم من طبيب كشف عن جسمي! وكم من دواء شقت مرارته مرارتي! أين أولادي؟ ليصنعوا مثل الحلقة حولي، وأخذت تقبل هذا، وتمسح بيدها رأس ذاك، وتبلل بالدموع وجوههم جميعاً، كل ذلك وهم في غفلة ساهون يفرحون ويمرحون إلا أكبرهم فكانت دموعه تسابق دموع أمه فيبكيان معا. وبعد قليل استنجدت بجرعات من الزجاجة فشربتها فنامت ثم أستيقضت بعد نصف ساعة وكأنما نشطت من عقال، فاستفاقت وعاد إليها برد الأمل، وما رأيتها في أوقات مرضها أسعد حالا وأعظم سروراً من تلك الساعة، وقلت لها: ألم أقل لك كثيراً إن الإنسان قد يصل به المرض إلى الغاية ثم يشفى، وأنا أعرف كثيراً من الناس بهذه المثابة

وما أنتصف الليل أو كاد حتى زلزلت الأرض زلزالها!! إنه موقف الموت الرهيب!! فرأيت نفسي في مأزق حرج لم أشهده طول حياتي. إنه رسول الموت جاء ليحسم الأمر بعد طول جدال! جاء (لقطع جهيزة قول كل خطيب)

ولتحط أم أولادي الرحال بعد طول تهجير فقد أضناها السرى وبرمت بالحياة الدنيا. رأيتها تسلم الروح إلى بارئها في يقظة وانتباه ونفسها معلقة بأولادها وكأنها تخاطب رسول الموت: قف قليلا لأشهد الكون إني ذهبت إلى الله وخلفت في الدنيا أطفالاً هم بهجة قلبي وحشاشة نفسي. قف قليلا لأودعهم الوداع الأخير

<<  <  ج:
ص:  >  >>