فلو أن الفلك جرى بموافقة سعيه لعصف بدول عصره جميعا ولو دولة الخلافة، وأقام على أنقاضها دولة متنبية من الطراز الذي يقول فيه أبو الطيب:
أعلى الممالكَ ما يبنى على الأسلِ
وما أصدق ذلك الذي قاله على لسان كافور وقد صوّر أنه سئل لماذا لم يُنلْ المتنبي ما طلب منه من الولاية: (يا قوم! من أدعى النبوّة بعد محمد صلى الله عليه وسلم كيف لا يدعى الملك بعد كافور؟)
وحينئذ فماذا كان يصير لو نجح المتنبي في مطلبه؟
إن الدولة العربية كانت قد شاخت في زمنه وتمكن الضعف منها فصارت هامة اليوم أو الغد، وقد رأى هو أن العرب أصبحت تدين للعجم بالطاعة وذلك أمر ليس من صالحهم في شيء:
وإنما الناس بالملوك وما ... تَصلح عُرْبٌ ملوكها عجمُ
وإن المسلمين أصبحوا في كل جهة عبيد العصا يسوقهم المتغلب أمامه كما يسوق الراعي قطعان الماشية:
ساداتُ كلٍ أُناس من نفوسهمُ ... وسَادَةُ المسلمين إلا عبدُ القزُمُ
وقد صار أمرهم مع المشركين بين العجز عنهم والرهب منهم:
أرى المسلمين مع المشركين ... إما لعجز وإمَّا رهُبْ
فإذا قلنا إنه لو نجح في مطلبه لكان ذلك من الخير للعرب والإسلام. لم يكن في قولنا هذا شيء من المبالغة لأن الرجل كان قوة هائلة لا تقف عند حد ولا ترجع عن قصد، فكان ينفخ من روحه في جسم الدولة المتهالك ويهيب بالأمة إلى حياة المجد والعظمة فما يكون بأسرع منها إلى الاستجابة له والإقبال عليه صادعة بأمره صادرة عن قوله:
لا افتخارٌ إلاَّ لِمن لا يُضامُ ... مُدركٌ أو محاربٌ لا يَنامُ
ليس عزماً ما عرَّض المرءُ فيه ... ليس همّاً ما عاقَ عنه الظلامُ
واحتمالُ الأذى ورؤْية جانِ ... يه غِذاءٌ تضوي به الأجسامُ
ذلَّ من يغبط الذليل بعيشٍ ... رُبَّ عيشٍ أخفُّ منه الحمامُ
(طنجة)