وإننا لا ننفي أن المتنبي كان جماعة للمال، ولكنه لم يكن يفعل ذلك إلا للاستعانة به على مقاصده كما يصرح هو بذلك في شعره لا سيما وهو يعلم من أحوال عصره أن الاعتبار كله إنما هو لأهل المال خاصة. وانظر إلى حكاية البطيخة التي أعطى صاحبها خمسة دراهم فلم يبيعها له وباعها بثلاثة لمن يملك مائة ألف دينار لمجرد كونه يملك مائة ألف دينار! فانصرف وقد علم أنه لا يتم اعتبار الناس له إلا إذا جمع مائة ألف دينار؛ وقد كان كذلك، وكل ما صدر عنه في هذا الصدد إنما هو من قبيل المثل الفرنسي , وكم بين من يطلب المال ليستعين به على قضاء حقوقه - وأي حقوق هي! إنها لتزري بحقوق الطغرائي التي يقول فيها:
أريد بسطة كف أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلا قِبلي
وبين من يطلبه لمجرد الحرص عليه وشهوته التي هي مرض من الأمراض، فإن هذا هو البخيل حقاً لا ذاك!
والواقع أننا وجدنا المتنبي صادقاً في كل ما وصف به نفسه من خلال المجد، فلا يصح أن يكذب في هذا الأمر لمجرد حكايات الله أعلم بحالها وحال من نحله إياه! كذلك وجدنا شعره طافحا بمدح الكرم وذم البخل في أبيات صريحة لا غبار عليها فلا يجوز أن نغض الطرف عن ذلك ونلجأ إلى الفرض والتخمين محملين بعض ألفاظه ما لا دلالة لها عليه لنصحح تهمة أنه كان بخيلا!
وإذا فرغنا من الكلام في النقط الثلاث التي عنينا به هنا، فلنتساءل ماذا كان مطلب المتنبي في الحياة ما دام لم يكن يطلب المال لذاته؟
والجواب أن المتنبي كان طالب دولة ولا شك، وكان لا أعدي إليه من أصحاب الدول في عصره، فهو لو تمكن منهم لما رحمهم، بل نرحم شبابه من أن يرحمهم على حد تعبيره هو:
لا يخدعنك من عدُوٍّ دمعُه ... وارحم شبابك من عَدُو ترحمُ
وقد كان يرى المجد في ضرب أعناق الملوك:
ولا تحسبنَّ المجد زقاً وقَينةً ... فما المجد إلا السيف والفتكةُ البكر
وتضريبُ أعناق الملوك وإن تُرى ... لك الهبواتُ الكثر والعسكر المجر