للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولكن الزحام شديد والقتام ساطع والعدو راصد، والنبي قد وزع عقله هنا وقلبه هناك، يهدي ويوصي ويرشد وقد ذهب أمامه أقرباؤه قروم الحرب وأبطال الشدائد، فأقلع أنس عن رغبته وأدرك أنه لم يكتب له الحظ أن يمس جلده جلد رسول الله قبل آخر العهد، فأنطلق زاحفاً إلى صفوف المشركين يضرب بيديه وبسيفه ورمحه وفرسه، وكأن المقادير أرادت أن تنتقم له انتقاماً حسناً فلم تظهر ثباته وصدقه في جمع ظفر، لكن في جمع تفرق وأنكسر، ولم يثبت فيه إلا كل أروع صنديد؛ فكرام من الصحابة يذودون عن النبي بأرواحهم وأجسادهم! وكرام من الصحابة شدوا على العدو المحيط بهم وقد أبت لهم عقيدتهم أن ينهزموا ويستسلموا! وهذا أنس لا يزال يجول وما زادته جراحه الكثيرة إلا زيادة في الثبات. وهل أكرم من الثابتين عند الله؟ وما زادته سراويله الحمر إلا استقتالاً وطمعاً في ذلك الأجر الذي تلوِّح له به بدر؛ لكن يوم بدر كان يوم ظفر، ويوم أُحد أسود الجلباب! فحيثما يطأ يجد صحابياً جريحاً يئن، وأيان توجه ير قتيلاً تزفه الحور العين.

- بادر يا أنس! فهذا هو يوم الأجر الأكبر، وهذا هو يوم الرضوان، ما ينفع تأجيل الموت وفي الشهادة حياة؟

وإنه ليحدث نفسه بهذا الحديث فيستقبله سعد بن معاذ فيقول له:

- (يا سعد! الجنة ورب النضر، إني لأجد ريحها من دون أُحد. . .)

فيتركه سعد ويود لو يصنع ما يصنع، ولكن رجال الله رجال، فليلتفت أنس إلى قومه فيقول:

- اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء!

ويلتفت إلى المشركين فيقول:

- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء!

ثم يحمل مقتحماً صفاً من المشركين المضرجة سيوفهم ونصالهم بدماء أصحابه فلا يزال مقتحماً في حملته وقد أعجز المشركين رده وأحزن قومه فقده. وإن المِعركة لتنتهي وقد بذل فيها الفريقان من فلذات الأكباد والأولاد لها طعاماً، وهيهات أن تشبع! فيقوم أبو سفيان يقول:

- أفي القوم محمد؟ فلا يجيبه أحد. أفي القوم أبن أبي قحافة؟ فلا يجيبه أحد. أفي القوم أبن

<<  <  ج:
ص:  >  >>