الحاطبون أو ذوو المآرب مجالاً لبث كيدهم أو شفاء لحك حزازاتهم. وشتان بين تجريح عنيف وبين نقد سائغ يراد به الإصلاح، قد أسس على الصدق والحق وتقدم به الناقد في هدوء وسلامة ذوق، فما جرح من عاطفة ولا مس من كرامة، ولا كان رغبة في تشهير أو إلصاق عيب. ومن هنا قالوا إن النقد صعب مرتقاه. ذلك لأن الناقد حكم أو شبيه به، ولا يتسنى له ذلك إلا بالقدرة على ضبط النفس وتجنب مواضع الزلل.
ص٣٤ - أخذ الناقد على الكتاب إطلاق كلمة (أقيال) على ملوك العرب وساداتهم، مع أن هذا اللقب - على رأيه - خاص بملوك اليمن أو مَن دونهم من أمراء المخاليف اليمنية. وألحق أن هذا التخصيص لا محل له. جاء في القاموس أنه يطلق على الملك، أو هو دون الملك الأعلى.
ص٣٦ - أخذ الناقد على الكتاب في قوله:(وكان للعرب نظام ثابت للزواج؛ فكان جمهورهم يقترن بالزوجة بعد رضاء أهلها، كما كان كثير منهم يستشيرون البنات في أمر زواجهن. . . الخ)، أنه لم يقصر هذه الحال على الحجاز بل عممها في شبه الجزيرة.
وإذا لاحظ القارئ أن الحجاز هو قلب بلاد العرب، تحج إليه من قديم الأزمان للعبادة والتجارة والمباراة في الشعر، وأقامت فيه الأسواق لذلك، ومنه تصدر التقاليد والعادات اجتماعية وخلقية، وعلى قالبه يضع القاطنون في أنحاء الجزيرة العربية ويعتصمون بخواطره، وأن الحجاز هو موطن الحركة الدينية والسياسية اللتين يؤرخ لهما المؤرخون، إذا لاحظ القارئ هذا، أدرك لأول وهلة أن الناقد لم ينصف في مأخذه ولم يوفق فيما أستدل به من حديث عائشة في هذا المقام.
ص٤٥ - يقول الناقد إن الفرس لم يزهدوا في بلاد اليمن و (أنهم كانوا حراصاً عليه ليحدوا من نفوذ خصومهم الروم والأحباش في تلك البلاد). ولو أنه أطلع على ما ذكره الطبري الذي أخذ عنه براون في كتابه (تأريخ الفرس الأدبي) , , , ١٧٨) وهو - كما لا يخفى - حجة دامغة في تأريخ الفرس، لعلم أن كانوا حقيقة زاهدين في غزو بلاد اليمن. ولا أدل على ذلك من رد كسرى على سيف بن ذي يَزَن الحميري عندما طلب منه مساعدته لاسترداد بلاده من الأحباش إذ يقول له:(بعدت أرضك عن أرضنا، وهي أرض قليلة الخير. إنما بها الشاة والبعير وذلك مما لا حاجة لنا به).